مفهوم الخلق بحسب كلمة الله

days-of-creation

انتشرت في مجتمعاتنا العربيّة بشكل عام وفي المجتمع المصري تحديدًا بعض نظريات “علميّة” لشرح مفهوم الخلق. تشترك أغلب هذه النظريات في رفضها القاطع لوجود خالق يكون هو من قام بعمل الخلق. وتشترك أيضا في التأكيد على التطور الطبيعيّ في الخلق، بمعنى رفض مفهوم الخلق من العدم أو الخلق المعجزيّ. أخيرًا تشترك هذه النظريات في التأكيد على البعد الزمني الهائل للخليقة من حيث فترة تكوينها وعمر الطبيعة والإنسان بشكل خاص.

والسؤال هنا: إلى أي مدى يمكن اتّباع هذه النظريات باعتبارها تقدم شرحًا ومفهومًا حقيقيًّا وصحيحًا لحقيقة الخلق؟ من الذي يقرّر صحة وصدق النظريّة من عدمها؟ هل هناك مرجعيّة للحق؟

تحدثت في مقالة أخرى عن أن أي حقيقة في الوجود لابد وأن يكون لها مرجعيّة تتأسّس عليها وتستمد منها صحتها وصدقها. إن وجود أي حقائق في الكون يستدعي بالضرورة وجود الله مصدر هذه الحقائق. فالحق لا يمكنه أن يُوجد من فراغ. فالله هو مصدر الحق وصاحبه. وكل حقيقة سواء علميّة أو طبيعيّة هي من الله ولا يمكن فهمها دون الرجوع لله.

لذلك فلكي نفهم حقيقة الخلق يجب أن نرجع لمصدر إعلان الحق الإلهي نفسه وهو كلمة الله المعصومة من كل خطأ. بالرجوع لسفر التكوين أصحاحات 1 – 2 نتعلم الاتي:

أولا: يؤكّد سفر التكوين في أول آية في الاصحاح الأول على حقيقة “في البدء خلق الله.” فالله هو الخالق. والخليقة لم تأتي إلى حيز الوجود من تلقاء نفسها أو نتيجة أي عامل أخر سوى قدرة وقوة الله وبسلطان كلمته. هذه الحقيقة ذاتها يؤكدها الرسول بولس حين يقول إن الكل قد خُلق من المسيح وبه وله (رومية 11: 36). “فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً امْ سِيَادَاتٍ امْ رِيَاسَاتٍ امْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ” (كولوسي 1: 16). وهنا نرى أن الله هو الخالق، وقد خلق بواسطة كلمة قدرته، أي الأبن، وأن الخليقة كلها هي للمسيح.

ثانيا: لا يقدّم لنا سفر التكوين قصة الخلق باعتبارها مراحل لتطور الخليقة بشكل طبيعيّ ودون تدخل فوق طبيعيّ. على النقيض يقدّم لنا سفر التكوين المبادرة الإلهيّة في الخلق والتي تتّسم بالبعد المعجزيّ. فالله خلق من العدم، في فترة 6 أيام، بشكل معجزيّ، بقوة كلمته، وخلق الإنسان على صورته كشبهه ف تكوين 1.

لذا فكل نظريات التطور في الخلق هي نظريات غير صحيحة لأنها لا تعتمد على المصدر الوحيد للحق وهو الله وإعلانه للإنسان في الكتاب المقدّس. هناك من يحاول التوفيق بين إعلان الله في الكتاب المقدّس وبين نظريات التطور من خلال تقديم نظريّة “الخلق بالتطور”. وهذه النظريّة تعتمد بشكل رئيسيّ على فكرة التطور الطبيعيّ في الخلق لكنها تختلف مع نظريّة التطور التقليديّة في كونها تعترف بأن هناك خالق للكون، أي مصدر لكل خليقة الكون. مشكلة نظريّة الخلق بالتطور تكمن في أنها تحاول التوفيق بين نقيضين بشكل غير صحيح وعلى أسس غير علميّة. ذلك لأن سفر التكوين يسرد لنا أحداث خلق الطبيعة وما فيها والإنسان تحديدًا باعتباره إنسانًا عاقلاً وكاملاً في خلقته. أي أن الإنسان لم يتطور بيولوجيًّا بعد أن خلقه الله. بل في الحال أصبح الإنسان بعد خلق الله له قادرًا على التواصل مع الله واستيعاب وصايا الله له (تكوين 2: 16 – 17، 3: 2 – 3). هذه القدرات الإنسانيّة خلقها الله في الإنسان من البداية. تمتد هذه القدرات الممنوحة للإنسان إلى حيث قدرة الإنسان على السيطرة على خليقة الله والتسلّط عليها بحسب الوصيّة الإلهيّة (تكوين 1: 28). أيضا كان الإنسان قادرّا على العمل وحفظ جنة عدن وراعيتها (تكوين 2: 15). لذا فالإنسان مخلوق على صورة الله، بشكل معجزيّ، من تراب الأرض، وهذا كله لم يتم بتطور زمني ولكن بعمل إلهيّ فوق طبيعيّ.

ثالثا: إن الهدف الرئيسيّ لصياغة تكوين 1 – 2 لقصة الخلق ليس مجرد سرد حقائق تاريخيّة وعلميّة بالدرجة الأولى ولكن تقديم إطارّا لاهوتيّّا لهدف أكبر من مجرد سرد حقائق علميّة. هذا لا يعني مطلقًا أن أحداث تكوين 1 – 2 ليست حقائق تاريخيّة وصحيحة من الناحيّة العلميّة. فكما أوضحنا سابقًا، مصدر كل الحق هو الله وحده. فما أعلنه الله لنا في الكتاب المقدّس من حقائق علميّة وتاريخيّة هي حقائق لا تشوبها أي خطأ. لكن الإطار الرئيسيّ لقصة الخلق في تكوين 1 – 2 هو إطارًا لاهوتيًّا في المقام الأول. هذا الإطار يؤكّد على عدّة أبعاد رئيسيّة منها: 1) الله هو الخالق وحده وهو خلق من العدم بالمسيح وللمسيح، 2) خلق الله الكل صالح وبحسب مسرة قلبه، 3) هدف الخليقة كلها هو إعلان مجد الله، 4) خلق الله الإنسان على صورته ليعبده ويستمتع بعلاقة شخصيّة معه. هذا الإطار اللاهوتي صحيح في محتواه العلميّ ولا يتناقض مع العلم الصحيح الذي يمنحه الله للإنسان. ذلك لأن العلم الصحيح والحقيقيّ هو من الله والله لا يناقض نفسه. أما أي علم آخر يتناقض مع إعلان الله في الكلمة المقدسة فهو علم بشري خاطئ ويستمد خطأه من فساد الإنسان نفسه. فالعلم البشريّ متغير بتغير البشر لكن العلم الصحيح الحقيقي الذي هو من الله فهو غير متغير لأن مصدره الله الذي لا يتغير.

رابعا: ماذا عن التاريخ الذي قدمه الكتاب المقدس عن عمر الخليقة؟ لا يقدم سفر التكوين تاريخًا محددًا لعمر الخليقة مع ذلك حساب سلاسل النسب في سفر التكوين تظهر أن زمن خلق الإنسان قصير وليس كما يعتقد بعض العلماء المعاصرين. فالله قد خلق الإنسان من ستة آلاف سنة تقريبًا وليس ملايين السنيين كما يظن البعض. مع ذلك لا يقدم سفر التكوين عمرًا محددًا لخلق الأرض.

وذلك دفع البعض للسؤال عن معنى كلمة “يوم” في تكوين اصحاح 1. هل المقصود “باليوم” 24 ساعة كما نعرفه أم هو حقبة زمنيّة طويلة غير محددة؟ يستند البعض على تكوين 2: 4 حيث يقول “هذِهِ مَبَادِئُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ، يَوْمَ عَمِلَ الرَّبُّ الإِلهُ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ.” وهذه الآية تعتبر ملخصًا لقصة الخلق في تكوين 1. لذا كلمة “يوم” في هذه الآية ليس المقصود منها نفس المعنى لكلمة “يوم” في تكوين 1. بل هي مجمل “الأيام” أو الفترة الزمنيّة التي أكمل فيها الله عمل الخلق. وبناءً على ذلك يعتقد البعض أنه بما أن كلمة “يوم” في تكوين 2: 4 تعني فترة زمنيّة غير محددة فهذا قد يعني أن كلمة “يوم” في تكوين 1 أيضًا تعني فترة زمنيّة غير محددة.

وبالرغم من أن هذا التفسير معقولاً ظاهريًّا وجديرًا بالقبول في إطار التأكيد على أن الله هو الخالق وأنه خلق من العدم، إلا أن هناك حجج كتابيّة أشمل وأوضح تؤكد على أن كلمة يوم في تكوين 1 تعني اليوم كما نعرفه، أي 24 ساعة، وليس مجرد حقبة زمنيّة غير محددة. ولا يمنع أن تكون لنفس الكلمة معنى مختلف في تكوين 2: 4. خاصة وأن تكوين 2: 4 هي بداية جزء جديد في التقسيم النصي لقصة الخلق كما سنرى.

بالرجوع لوصيّة حفظ يوم السبت في خروج 20: 8 – 11 نقرأ “اذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ ايَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ وَامَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ الَهِكَ. لا تَصْنَعْ عَمَلا مَا انْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَامَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ ابْوَابِكَ – لانْ فِي سِتَّةِ ايَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالارْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ.” هنا نرى أن وصية الله للإنسان بحفظ يوم السبت تستند على حقيقة الخلق في ستة أيام واستراحة الرب في اليوم السابع. وهذا يدل على حقيقتين: 1) أن استراحة الرب في اليوم السابع كانت لفترة 24 ساعة، 2) أن تناظر وصيّة حفظ السبت وقياسها التمثيليّ مع أيام الخليقة ويوم استراحة الرب يدّل على أن كلمة “يوم” في تكوين 1 تعني 24 ساعة.

لاحظ أن نص استراحة الرب في اليوم السابع يأتي في ارتباط مباشر مع أيام الخلق في تكوين 1. فبالرغم من وجود النص في تكوين 2: 2 – 3 إلا أن تقسيم الآيات من حيث أرقامها هو من صنع الإنسان وليس جزءً من الوحي. ويتفق أغلب علماء الكتاب المقدّس أن أول 3 آيات من تكوين 2 تخص تكوين 1 وترتبط ارتباطًا منطقيًّا ونصيًّا معه. وأن بداية تكوين 2 هي الآية 4 في التقسيم الحالي أي عبارة “هَذِهِ مَبَادِئُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ حِينَ خُلِقَتْ يَوْمَ عَمِلَ الرَّبُّ الالَهُ الارْضَ وَالسَّمَاوَاتِ.” خاصة وأن تعبير “مبادئ” (وهو نفس التعبير العبري المترجم “مواليد” في أماكن أخرى في السفر: تكوين 2:4؛ 5: 1؛ 6: 9؛ 10: 1؛ 11: 10؛ 11: 27؛ 25: 12؛ 25: 19؛ 36: 1، 9؛ 37: 2) في سفر التكوين هو مصطلح رئيسي قصد منه موسى كاتب السفر أن يكون علامة على تقسيم السفر من ناحية موضوعاته كبداية لجزء جديد في كل تقسيم.

أيضًا بالرجوع لأول مرة ذُكر فيها تعبير “يوم” في تكوين 1: 5 نقرأ “وَدَعَا اللهُ النُّورَ نَهَارا وَالظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلا. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْما وَاحِدا.” هنا نرى أن اليوم تم تحديده بتتابع النهار والليل. وهذا يدل بوضوح على أنه يوما مقداره الزمني 24 ساعة.

كذلك فهم العهد الجديد والمسيح أيام الخلق على أنها أيام طبيعيّة وأن وصية حفظ السبت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأيام الخلق، مثلا أنظر لوقا 13: 14.

من هنا نرى أن الفهم الأفضل لتعبير “يومفي تكوين 1 بما فيه يوم استراحة الرب في أول 3 آيات من تكوين 2، بحسب تقسيم الآيات الذي بين أيدينا اليوم، هو أن كلمة “يوم” تعني 24 ساعة، أي يومًا طبيعيًّا كما نعرفه الآن.

وسواء آمنا بأن كلمة “يوم” في تكوين 1 تعني حقبة زمنيّة أو 24 ساعة، فالحقيقة الرئيسيّة في تكوين 1 – 2 هي أن الله هو الخالق، بكلمة قدرته، وقد خلق من العدم، وكل خليقته صالحة وحسنة جدًا في نظره.

خامسا: بقراءة أحداث أيام الخلق في تكوين 1: 1 – 2: 3 بعناية يتضح لنا أنه هناك إطارًا مركبًّا قصد منه موسى أن نفهم قصة الخلق بطريقة ما بشكل عام. هذا الإطار يبين أنه هناك ثلاثيتين في توازي معا في أيام الخليقة كالآتي:

يتوازى اليوم الأول مع اليوم الرابع، واليوم الثاني مع اليوم الخامس، واليوم الثالث مع اليوم السادس من حيث الإطار والمحتوى. ففي اليوم الأول خلق الله النور (تكوين 1: 3 – 5)، ثم خلق مكونات النور أي الشمس والقمر في اليوم الرابع (تكوين 1: 14 – 19). وفي اليوم الثاني خلق الله السماء والبحار (تكوين 1: 6 –8)، ثم خلق ما يملئ البحار من مخلوقات بحريّة والسماء من طيور في اليوم الخامس (تكوين 1: 20 – 23). أخيرا في اليوم الثالث خلق الله الأرض اليابسة والعشب (تكوين 1: 9 – 13)، ثم ملئ الأرض بالحيوانات البريّة والإنسان في اليوم السادس (تكوين 1: 24 – 31). ثم أخيرا في تكوين 2: 1 – 3 استراح الرب في اليوم السابع.

ملوك الخلق

ممالك الخلق

اليوم الرابع: أنوارا

اليوم الأول: النور

اليوم الخامس: مخلوقات بحريّة وطيور

اليوم الثاني: السماء والبحار

اليوم السادس: حيوانات البريّة والإنسان

اليوم الثالث: الأرض اليابسة والعشب

الملك الخالق

اليوم السابع: السبت

 تسرد لنا الثلاثيّة الأولى (الأيام 1 – 3) تأسيس ممالك الخلق والثلاثيّة الثانية (الأيام 4 – 6) ملوك الخلق. علاوة على ذلك، لا يخلو هذا البناء الهيكليّ من دلالة لاهوتيّة هامة وهي أن جميع الممالك وما يملئها المخلوقة في ستة أيام هي كائنات خاضعة لله الذي يتخذ سبت راحته الملكيّة في اليوم السابع كالخالق الملك. لذا فاليوم السابع يعتبر ذروة أسبوع الخلق.

من هنا رأينا أن الحق الإلهيّ المعلن لنا في الكتاب المقدّس يوضح أن الله هو الخالق، وأن الخليقة كلها تخدم هدف إعلان مجد الله في المسيح. وأي نظريات “علميّة” لا تتفق مع السرد الكتابيّ لقصة الخلق هي نظريات خاطئة مصدرها الإنسان ولذا فهي غير ثابتة وغير معصومة. تبقى فقط كلمة الله أساس كل حق المصدر الوحيد المعصوم لإعلان الله لنا ولكيفيّة إيماننا به.

فهل تبني إيمانك على الأساس الراسخ لما أعلنه الله لك عن نفسه في الكلمة المقدّسة؟ أم تبنيه على أساس متزعزع غير صحيح ويشوبه الأخطاء من نتاج البشر؟

د. ق. شريف جندي

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s