انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة “الالحاد” في مصر والعالم العربيّ حيث ظهر بعض الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم القابًا مختلفة منها “لا دينيّ” أو “إنسانيّ” أو “ملحد.” هؤلاء ببساطة يحاولون إنكار وجود الله أو بالحريّ يحاولون الهروب من سلطانه وسيادته، رغبة منهم في “تحرير” الإنسان من سيطرة الدين أو رجال الدين عليه. وهنا يأتي الخلط بين شخص الله الخالق والضابط للكل وبين مفهوم الدين ومن يروّجون له. ففساد رجال الدين وفساد شرح الدين نفسه لا يعني بالضرورة أنه لا يوجد إله خالق للكون ومسيطرًا على كل ما يحدث فيه. لهذا فحين يتحدّث هؤلاء “اللا دينين” نلاحظ أن تركيز حديثهم هو في مناقشة رجال الدين وسلوكهم أو فرائص وقوانين الدين دون الحديث عن شخص الله نفسه وعمله في التاريخ البشريّ.
وقد حاول عديد من المحلّلين أن يشرحوا وجود هذه الظاهرة في مجتمعاتنا العربيّة وتوصّلوا لعدة أسباب أهمها فساد بعض رجال الدين، أو فساد المؤسسة الدينيّة نفسها، أي الكنيسة المحليّة في إدارتها وتعليمها، أو بسبب خبرات سيّئة في الماضي أو التربيّة والتنشئة الثقافيّة، أو عادات مجتمعيّة ظالمة تحكم باسم الدين، أو رغبة في محاكاة المجتمعات الغربيّة، وأسباب أخرى كثيرة.
في هذه المقالة أحاول أن أضع بعض الأسس الكتابيّة للتفكير في هذه الظاهرة والتعامل مع مَن يروّجون لها أو ينتمون إليها.
أولًا: هل من الممكن أن نفترض وجود أي حقيقة على الإطلاق دون أن تنبع جذور هذه الحقيقة وقوتها من عمل خلق الله وعنايته بالخليقة؟ أي هل يمكن أن توجد حقيقة في الوجود ليس لها أساس في خليقة الله؟ إن لم يكن الأمر كذلك، إذن فكل حقيقة تفترض وجود الله، أنه هو الخالق لكل ما هو موجود، وأنه يعتني بما خلقه. هذا يعني أن محاولة إنكار وجود الله هي في حد ذاتها محاولة غير عقلانيّة حيث أنها تتعارض مع منطق وجود حقائق في الكون. فلا يمكن للإنسان أن يكون عاقلًا وأمينًا مع نفسه وفي ذات الوقت لا يعترف بوجود الله كخالق للكل. لأنه بذلك يكون متناقضًا مع نفسه وليس له أساسًا منطقيًّا من التفكير.
يعلّمنا الكتاب المقدّس، المصدر المعصوم لإعلان الحق الإلهيّ للإنسان، أن كل البشر لديهم معرفة عن وجود الله وطبيعته. يقول لنا بولس الرسول في رومية 1: 18–22 “لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ. إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ.” يضع الرسول بولس أمامنا عدة حقائق هامة في هذا النص:
أ) معرفة الله، أي المعرفة بوجوده وشخصه وقدرته، ظاهرة في داخل جميع الناس لأن الله نفسه أعلنها لهم.
ب) هذه المعرفة مبنيّة على عمل خلق الله وعنايته بالخليقة.
ت) يحجز الإنسان الحقّ بالإثم، أي يقمعه ويحاول أن يطمس معالمه ويشوّهه.
ث) الإنسان بلا عذر، أي أنّه لا يستطيع أن ينكر وجود الله أو يلقي باللوم عليه لأن معرفة الله معلنة له وظاهرة في الخليقة.
ج) بالرغم من إعلان معرفة الله للإنسان إلا أن الإنسان لم يمجّد الله ويعبده بحسب هذه المعرفة ومن هنا تظهر حماقة الإنسان.
ح) بسبب حماقة فكر الإنسان وظلام قلبه صار جاهلًا في محاولة إنكاره لوجود الله، في الوقت الذي فيه يظن أنه أكثر حكمة من الآخرين.
يذكر داود النبيّ في مزمور 19: 1 أن “اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ.” وهنا يؤكد على نفس الحقيقة وهي أن خليقة الله في السماوات والفلك تعلن كلها عن مجد الله وعمل يديه. فالخليقة هي إعلان عام من الله لكل البشر عن شخصه وعمله وقدرته. كذلك طيور السماء تعلن عن عظمة الله (متى 6: 26). وبالإضافة لإعلان الله عن نفسه من خلال الخليقة والمخلوقات، فالله يعلن عن نفسه داخل الإنسان من خلال الضمير البشري (رومية 2: 14). فكل إنسان لديه معرفة عن الله، هذه المعرفة أعلنها الله بنفسه لكل إنسان. محاولة إنكار الإنسان لهذه المعرفة ما هي إلا محاولة جاهلة وغير عقلانيّة منه للهروب من حقيقة وجود الله بالرغم من محاصرة الخليقة نفسها للإنسان وهي تقدم له هذه المعرفة، وكذلك وجود هذه المعرفة داخل الإنسان نفسه. وفي هذا يتناقض الإنسان مع نفسه حيث أن معرفة الله ظاهرة فيه ولكنه يظن بأنه قادرٌ على إنكار وجود الله. وما يدعو للسخريّة هو محاولة الإنسان تقديم “أدلة” على عدم وجود الله. وهنا يخدع الإنسان نفسه ومن حوله حيث أنه لا توجد “أدلة” على عدم وجود الله. بل كل أدلة وحقيقة سواء علميّة أو في الخليقة أو حتى مجرد وجود الإنسان نفسه، كل هذا إنما يدل على عظمة وقدرة الخالق.
من هنا رأينا أن معرفة الله ظاهرة في الإنسان، وأيضًا ظاهرة في خليقة الله خارج الإنسان. لذا فالإنسان محاصر بمعرفة الله في داخله وخارجه. فأي محاولة لإنكار وجود الله ما هي إلا محاولة للهروب من حقيقة وجوده وليس إنكارًا لوجوده. ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن ينكر وجود الله بشكل عقلانيّ ومنطقيّ. هو يستطيع فقط أن يحاول أن يهرب من حقيقة وجوده، وإن كانت محاولته للهروب أيضا تقوده للفشل حيث لا هروب من وجود الله. يتساءل داود مستنكرًا “أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟” (مزمور 139: 8). فلا مفر من حقيقة وجود الله. فالدليل الموضوعي لوجود الله وسيادته الشاملة على الكون كله هو واضح لكل إنسان. كما أن حقيقة وجود الإنسان نفسه تشهد لحقيقة وجود الله. لا يستطيع أي إنسان عاقل أن ينكر وجود الله دون أن ينكر وجوده هو نفسه، وبهذا يكون قد وصل لقرار غير منطقيّ وغير عقلانيّ. فهما حاول الإنسان أن ينكر وجود الله بحسب ظنه فلا يستطيع هذا الإنسان أن يهرب من كونه هو نفسه مخلوقًا وله وجود وكيان. فأي محاولة من الإنسان للمشاركة في دراسة استقرائيّة فيما يتعلق بحقائق الطبيعة عن وجوده أو تحليل وعيه الذاتيّ سيصطدم دائمًا وجهًا لوجه مع الله خالقه. فما يدعو للسخريّة هو أن الله خلق العقل للإنسان ثم جاء الإنسان وظن أنه بإمكانه أن ينكر وجود الله لمجرد استخدامه لعقله! حقا إن “اَلسَّاكِنُ فِي السَّمَاوَاتِ يَضْحَكُ. الرَّبُّ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ.” مزمور 2: 4.
يعلن لنا مزمور 14: 1–3 “قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلهٌ». فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا. اَلرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟ الْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعًا، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ.”
من هنا ندرك أنه لا يوجد “إلحادًا” أو “ملحدين” ولكن يوجد فقط أناس يحاولون بشكل غير منطقيّ وغير عقلانيّ وضد ما هو معلن في طبيعتهم البشريّة أن يهربوا من حقيقة وجود الله بالرغم من إعلان معرفة الله داخلهم وحولهم وفي ذات طبيعة خلقهم. فالإنسان إذن يحاول أن يهرب من حقيقة وجود الله ولكنه لا يستطيع أن ينكر وجوده.
ثانيًا: يوجد عامل مشترك بين المؤمنين وغير المؤمنين وهي أنهم جميعًا مخلوقين على صورة الله (تكوين 1: 26–27). وصورة الله في الإنسان لم تُمحى بالسقوط في الخطية بل فقط تشوّهت. حيث وصف الله الإنسان بعد السقوط في الخطيّة بأنه مازال مخلوقًا على صورته (تكوين 9: 6). وصورة الله في الإنسان تؤكّد على الحقيقة السابقة، فكل إنسان لكونه مخلوقًا على صورة الله لديه معرفة عن الله حقًّا. فالله معلن في الطبيعة وفي ضمير الإنسان. ففي حين أن معرفة الله في كل إنسان، في إطار الإعلان العام لله في الخليقة، هي معرفة محدودة من حيث المحتوى ولا تقود الإنسان للخلاص. بمعنى أن هذه المعرفة لا تعلن كل شيء عن الله ولا تعلن طريق الخلاص الذي هو فقط في المسيح. مع ذلك كل إنسان عاقل يدرك حقيقة وجود الله.
ثالثًا: لا توجد أي أرضيّة مشتركة بين المؤمنين وغير المؤمنين. قد تبدوا هذه الفكرة متناقضة مع الفكرة السابقة. ولكن لا يوجد تناقض هنا. فبالرغم من وجود عامل مشترك بين المؤمن وغير المؤمن وهي أن كلاهما مخلوق على صورة الله، هذا العامل مرتكز على خلق الله لهم، مع هذا لا توجد بينهم أي أرضيّة مشتركة من حيث مكانتهم أو وضعهم الأخلاقيّ أمام الله ومن حيث طبيعتهم الروحيّة ورؤيتهم للواقع. فعندما خلق الله الإنسان خلقه في علاقة عهديّة معه، وبسبب السقوط في الخطيّة أصبح الإنسان في علاقته العهديّة مع الله إما في آدم الأول باعتباره رأسه ونائبه في عهد الأعمال أو في آدم الثاني/الأخير أي المسيح باعتباره رأسه أو نائبه في العهد الجديد. فلا يوجد مكان ثالث. ولهذا فالمؤمن يفكّر ويحيا ويسلك بحسب طبيعة مكانته العهديّة مع الله. الإنسان المُجدّد بعمل نعمة الله يعرف الله معرفة خلاصيّة وهذه المعرفة تنعكس على رؤيته للواقع والأحداث. فهو يرى يد الله تدير أحداث التاريخ، ويرى سلطان الله في قوانين الطبيعة وقرارات البشر. الإنسان المؤمن قد تحرّر من سلطان الخطيّة وأصبح بنعمة الله قادرّا على تبعيّة المسيح واتخاذ قرارات تمجّد الله.
في المقابل نرى الشخص الغير مجدد مقيدًا تحت سلطان الخطيّة ومذنبًا في أفكاره وأفعاله. نراه يحاول أن ينكر سلطان الله وقدرته في كل ما يحدث من حوله. هو يرى الأمور من منظور قاصر ومشوّه وبالتالي لا يستطيع أن يقيّم الأحداث بشكل صحيح وفق سيادة الله المطلقة في الكون. وأخيرًا هو عاجز عن المجيء للمسيح إن لم يجتذبه الآب (يوحنا 6: 44). فالإنسان في محاولة هروبه من الله هو ببساطة يسلك بحسب طبيعته الفاسدة كشخص متمرد ورافض لشخص الله وشريعته. الإنسان بطبيعته الفاسدة هو عدو لله ولا يقبل ما هو لله (يوحنا 8: 47؛ رومية 5: 10؛ فيلبي 3: 18).
من هنا نفهم أن الظاهرة الجديدة التي انتشرت في مجتمعاتنا العربيّة ما هي إلى اعتراف علنيّ من البعض بحقيقة مكانتهم المتمردة تجاه الله. إنها ليست ظاهرة جديدة بل إعلانها للمجتمع هو فقط الجديد. فالإنسان منذ السقوط في الخطيّة وهو يرفض أمور الله (1 كورنثوس 2: 14). تكمن المشكلة في أن مجتمعاتنا العربيّة تتسم بالطابع الدينيّ من الناحية الثقافيّة، وبالتالي فكل إنسان لابد وأن يكون له دين حتى يقبله المجتمع الشرقيّ ويستطيع أن يتعايش فيه. ما حدث مؤخرًا من حركات الثورات السياسيّة وبسبب الدعوات بالحريّة والتمرد على كل أنواع السلطة بما فيها الدينيّة تجرّأ البعض بالإفصاح عن حقيقة ما في داخلهم من عدائهم لله دون الخوف من أي عواقب مجتمعيّة لهذا الاعتراف.
رابعًا: كيف تتعامل الكنيسة مع هذه الظاهرة؟ على الكنيسة ألا تندهش أو ترهب أو تخشى هؤلاء الذين أفصحوا عن طبيعتهم العدائيّة لله. على الكنيسة أن تصلي من أجلهم، وأن تقدّم لهم إنجيل يسوع المسيح بكل محبة وجراءة بقوة بالروح القدس. على الكنيسة أيضًا ألا تحاول “إثبات” وجود الله لأنه وكما أوضحنا مشكلة هؤلاء ليست مع حقيقة وجود الله والأدلة عليها، ذلك لأنه في قرارة نفوسهم هم يدركون حقيقة وجود الله لأن الله أعلنها لهم لكنهم فقط يحاولوا الهروب منها. بل على الكنيسة أن تتعامل مع أساس المشكلة وهو قلب الإنسان الشرير والفاسد والذي يحتاج لنعمة الله لكي يتغير من فساده ويخضع لسلطان الله ومحبته في المسيح. أخيرًا على الكنيسة أن تدرك أن سلطان تغير القلب هو في يد الله وحده. ووظيفتها الرئيسيّة هي الشهادة لعمل نعمة الله في المسيح وإعلان الحق الكتابيّ. ليس للكنيسة أي سلطان على تغير الإنسان فهذا من حق الله وحده.
د. ق. شريف جندي