هل حقًّا في وسطنا ملحد؟

atheist_thumb[2]

انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة “الالحاد” في مصر والعالم العربيّ حيث ظهر بعض الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم القابًا مختلفة منها “لا دينيّ” أو “إنسانيّ” أو “ملحد.” هؤلاء ببساطة يحاولون إنكار وجود الله أو بالحريّ يحاولون الهروب من سلطانه وسيادته، رغبة منهم في “تحرير” الإنسان من سيطرة الدين أو رجال الدين عليه. وهنا يأتي الخلط بين شخص الله الخالق والضابط للكل وبين مفهوم الدين ومن يروّجون له. ففساد رجال الدين وفساد شرح الدين نفسه لا يعني بالضرورة أنه لا يوجد إله خالق للكون ومسيطرًا على كل ما يحدث فيه. لهذا فحين يتحدّث هؤلاء “اللا دينين” نلاحظ أن تركيز حديثهم هو في مناقشة رجال الدين وسلوكهم أو فرائص وقوانين الدين دون الحديث عن شخص الله نفسه وعمله في التاريخ البشريّ.

وقد حاول عديد من المحلّلين أن يشرحوا وجود هذه الظاهرة في مجتمعاتنا العربيّة وتوصّلوا لعدة أسباب أهمها فساد بعض رجال الدين، أو فساد المؤسسة الدينيّة نفسها، أي الكنيسة المحليّة في إدارتها وتعليمها، أو بسبب خبرات سيّئة في الماضي أو التربيّة والتنشئة الثقافيّة، أو عادات مجتمعيّة ظالمة تحكم باسم الدين، أو رغبة في محاكاة المجتمعات الغربيّة، وأسباب أخرى كثيرة.

في هذه المقالة أحاول أن أضع بعض الأسس الكتابيّة للتفكير في هذه الظاهرة والتعامل مع مَن يروّجون لها أو ينتمون إليها.

أولًا: هل من الممكن أن نفترض وجود أي حقيقة على الإطلاق دون أن تنبع جذور هذه الحقيقة وقوتها من عمل خلق الله وعنايته بالخليقة؟ أي هل يمكن أن توجد حقيقة في الوجود ليس لها أساس في خليقة الله؟ إن لم يكن الأمر كذلك، إذن فكل حقيقة تفترض وجود الله، أنه هو الخالق لكل ما هو موجود، وأنه يعتني بما خلقه. هذا يعني أن محاولة إنكار وجود الله هي في حد ذاتها محاولة غير عقلانيّة حيث أنها تتعارض مع منطق وجود حقائق في الكون. فلا يمكن للإنسان أن يكون عاقلًا وأمينًا مع نفسه وفي ذات الوقت لا يعترف بوجود الله كخالق للكل. لأنه بذلك يكون متناقضًا مع نفسه وليس له أساسًا منطقيًّا من التفكير.

يعلّمنا الكتاب المقدّس، المصدر المعصوم لإعلان الحق الإلهيّ للإنسان، أن كل البشر لديهم معرفة عن وجود الله وطبيعته. يقول لنا بولس الرسول في رومية 1: 18–22 “لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ. إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ.” يضع الرسول بولس أمامنا عدة حقائق هامة في هذا النص:

 أ) معرفة الله، أي المعرفة بوجوده وشخصه وقدرته، ظاهرة في داخل جميع الناس لأن الله نفسه أعلنها لهم.

ب) هذه المعرفة مبنيّة على عمل خلق الله وعنايته بالخليقة.

 ت) يحجز الإنسان الحقّ بالإثم، أي يقمعه ويحاول أن يطمس معالمه ويشوّهه.

ث) الإنسان بلا عذر، أي أنّه لا يستطيع أن ينكر وجود الله أو يلقي باللوم عليه لأن معرفة الله معلنة له وظاهرة في الخليقة.

 ج) بالرغم من إعلان معرفة الله للإنسان إلا أن الإنسان لم يمجّد الله ويعبده بحسب هذه المعرفة ومن هنا تظهر حماقة الإنسان.

 ح) بسبب حماقة فكر الإنسان وظلام قلبه صار جاهلًا في محاولة إنكاره لوجود الله، في الوقت الذي فيه يظن أنه أكثر حكمة من الآخرين.

يذكر داود النبيّ في مزمور 19: 1 أن “اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ.” وهنا يؤكد على نفس الحقيقة وهي أن خليقة الله في السماوات والفلك تعلن كلها عن مجد الله وعمل يديه. فالخليقة هي إعلان عام من الله لكل البشر عن شخصه وعمله وقدرته. كذلك طيور السماء تعلن عن عظمة الله (متى 6: 26). وبالإضافة لإعلان الله عن نفسه من خلال الخليقة والمخلوقات، فالله يعلن عن نفسه داخل الإنسان من خلال الضمير البشري (رومية 2: 14). فكل إنسان لديه معرفة عن الله، هذه المعرفة أعلنها الله بنفسه لكل إنسان. محاولة إنكار الإنسان لهذه المعرفة ما هي إلا محاولة جاهلة وغير عقلانيّة منه للهروب من حقيقة وجود الله بالرغم من محاصرة الخليقة نفسها للإنسان وهي تقدم له هذه المعرفة، وكذلك وجود هذه المعرفة داخل الإنسان نفسه. وفي هذا يتناقض الإنسان مع نفسه حيث أن معرفة الله ظاهرة فيه ولكنه يظن بأنه قادرٌ على إنكار وجود الله. وما يدعو للسخريّة هو محاولة الإنسان تقديم “أدلة” على عدم وجود الله. وهنا يخدع الإنسان نفسه ومن حوله حيث أنه لا توجد “أدلة” على عدم وجود الله. بل كل أدلة وحقيقة سواء علميّة أو في الخليقة أو حتى مجرد وجود الإنسان نفسه، كل هذا إنما يدل على عظمة وقدرة الخالق.

من هنا رأينا أن معرفة الله ظاهرة في الإنسان، وأيضًا ظاهرة في خليقة الله خارج الإنسان. لذا فالإنسان محاصر بمعرفة الله في داخله وخارجه. فأي محاولة لإنكار وجود الله ما هي إلا محاولة للهروب من حقيقة وجوده وليس إنكارًا لوجوده. ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن ينكر وجود الله بشكل عقلانيّ ومنطقيّ. هو يستطيع فقط أن يحاول أن يهرب من حقيقة وجوده، وإن كانت محاولته للهروب أيضا تقوده للفشل حيث لا هروب من وجود الله. يتساءل داود مستنكرًا “أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟” (مزمور 139: 8). فلا مفر من حقيقة وجود الله. فالدليل الموضوعي لوجود الله وسيادته الشاملة على الكون كله هو واضح لكل إنسان. كما أن حقيقة وجود الإنسان نفسه تشهد لحقيقة وجود الله. لا يستطيع أي إنسان عاقل أن ينكر وجود الله دون أن ينكر وجوده هو نفسه، وبهذا يكون قد وصل لقرار غير منطقيّ وغير عقلانيّ. فهما حاول الإنسان أن ينكر وجود الله بحسب ظنه فلا يستطيع هذا الإنسان أن يهرب من كونه هو نفسه مخلوقًا وله وجود وكيان. فأي محاولة من الإنسان للمشاركة في دراسة استقرائيّة فيما يتعلق بحقائق الطبيعة عن وجوده أو تحليل وعيه الذاتيّ سيصطدم دائمًا وجهًا لوجه مع الله خالقه. فما يدعو للسخريّة هو أن الله خلق العقل للإنسان ثم جاء الإنسان وظن أنه بإمكانه أن ينكر وجود الله لمجرد استخدامه لعقله! حقا إن “اَلسَّاكِنُ فِي السَّمَاوَاتِ يَضْحَكُ. الرَّبُّ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ.” مزمور 2: 4.

يعلن لنا مزمور 14: 1–3 “قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلهٌ». فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا. اَلرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟ الْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعًا، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ.”

من هنا ندرك أنه لا يوجد “إلحادًا” أو “ملحدين” ولكن يوجد فقط أناس يحاولون بشكل غير منطقيّ وغير عقلانيّ وضد ما هو معلن في طبيعتهم البشريّة أن يهربوا من حقيقة وجود الله بالرغم من إعلان معرفة الله داخلهم وحولهم وفي ذات طبيعة خلقهم. فالإنسان إذن يحاول أن يهرب من حقيقة وجود الله ولكنه لا يستطيع أن ينكر وجوده.

ثانيًا: يوجد عامل مشترك بين المؤمنين وغير المؤمنين وهي أنهم جميعًا مخلوقين على صورة الله (تكوين 1: 26–27). وصورة الله في الإنسان لم تُمحى بالسقوط في الخطية بل فقط تشوّهت. حيث وصف الله الإنسان بعد السقوط في الخطيّة بأنه مازال مخلوقًا على صورته (تكوين 9: 6). وصورة الله في الإنسان تؤكّد على الحقيقة السابقة، فكل إنسان لكونه مخلوقًا على صورة الله لديه معرفة عن الله حقًّا. فالله معلن في الطبيعة وفي ضمير الإنسان. ففي حين أن معرفة الله في كل إنسان، في إطار الإعلان العام لله في الخليقة، هي معرفة محدودة من حيث المحتوى ولا تقود الإنسان للخلاص. بمعنى أن هذه المعرفة لا تعلن كل شيء عن الله ولا تعلن طريق الخلاص الذي هو فقط في المسيح. مع ذلك كل إنسان عاقل يدرك حقيقة وجود الله.

ثالثًا: لا توجد أي أرضيّة مشتركة بين المؤمنين وغير المؤمنين. قد تبدوا هذه الفكرة متناقضة مع الفكرة السابقة. ولكن لا يوجد تناقض هنا. فبالرغم من وجود عامل مشترك بين المؤمن وغير المؤمن وهي أن كلاهما مخلوق على صورة الله، هذا العامل مرتكز على خلق الله لهم، مع هذا لا توجد بينهم أي أرضيّة مشتركة من حيث مكانتهم أو وضعهم الأخلاقيّ أمام الله ومن حيث طبيعتهم الروحيّة ورؤيتهم للواقع. فعندما خلق الله الإنسان خلقه في علاقة عهديّة معه، وبسبب السقوط في الخطيّة أصبح الإنسان في علاقته العهديّة مع الله إما في آدم الأول باعتباره رأسه ونائبه في عهد الأعمال أو في آدم الثاني/الأخير أي المسيح باعتباره رأسه أو نائبه في العهد الجديد. فلا يوجد مكان ثالث. ولهذا فالمؤمن يفكّر ويحيا ويسلك بحسب طبيعة مكانته العهديّة مع الله. الإنسان المُجدّد بعمل نعمة الله يعرف الله معرفة خلاصيّة وهذه المعرفة تنعكس على رؤيته للواقع والأحداث. فهو يرى يد الله تدير أحداث التاريخ، ويرى سلطان الله في قوانين الطبيعة وقرارات البشر. الإنسان المؤمن قد تحرّر من سلطان الخطيّة وأصبح بنعمة الله قادرّا على تبعيّة المسيح واتخاذ قرارات تمجّد الله.

في المقابل نرى الشخص الغير مجدد مقيدًا تحت سلطان الخطيّة ومذنبًا في أفكاره وأفعاله. نراه يحاول أن ينكر سلطان الله وقدرته في كل ما يحدث من حوله. هو يرى الأمور من منظور قاصر ومشوّه وبالتالي لا يستطيع أن يقيّم الأحداث بشكل صحيح وفق سيادة الله المطلقة في الكون. وأخيرًا هو عاجز عن المجيء للمسيح إن لم يجتذبه الآب (يوحنا 6: 44). فالإنسان في محاولة هروبه من الله هو ببساطة يسلك بحسب طبيعته الفاسدة كشخص متمرد ورافض لشخص الله وشريعته. الإنسان بطبيعته الفاسدة هو عدو لله ولا يقبل ما هو لله (يوحنا 8: 47؛ رومية 5: 10؛ فيلبي 3: 18).

من هنا نفهم أن الظاهرة الجديدة التي انتشرت في مجتمعاتنا العربيّة ما هي إلى اعتراف علنيّ من البعض بحقيقة مكانتهم المتمردة تجاه الله. إنها ليست ظاهرة جديدة بل إعلانها للمجتمع هو فقط الجديد. فالإنسان منذ السقوط في الخطيّة وهو يرفض أمور الله (1 كورنثوس 2: 14). تكمن المشكلة في أن مجتمعاتنا العربيّة تتسم بالطابع الدينيّ من الناحية الثقافيّة، وبالتالي فكل إنسان لابد وأن يكون له دين حتى يقبله المجتمع الشرقيّ ويستطيع أن يتعايش فيه. ما حدث مؤخرًا من حركات الثورات السياسيّة وبسبب الدعوات بالحريّة والتمرد على كل أنواع السلطة بما فيها الدينيّة تجرّأ البعض بالإفصاح عن حقيقة ما في داخلهم من عدائهم لله دون الخوف من أي عواقب مجتمعيّة لهذا الاعتراف.

رابعًا: كيف تتعامل الكنيسة مع هذه الظاهرة؟ على الكنيسة ألا تندهش أو ترهب أو تخشى هؤلاء الذين أفصحوا عن طبيعتهم العدائيّة لله. على الكنيسة أن تصلي من أجلهم، وأن تقدّم لهم إنجيل يسوع المسيح بكل محبة وجراءة بقوة بالروح القدس. على الكنيسة أيضًا ألا تحاول “إثبات” وجود الله لأنه وكما أوضحنا مشكلة هؤلاء ليست مع حقيقة وجود الله والأدلة عليها، ذلك لأنه في قرارة نفوسهم هم يدركون حقيقة وجود الله لأن الله أعلنها لهم لكنهم فقط يحاولوا الهروب منها. بل على الكنيسة أن تتعامل مع أساس المشكلة وهو قلب الإنسان الشرير والفاسد والذي يحتاج لنعمة الله لكي يتغير من فساده ويخضع لسلطان الله ومحبته في المسيح. أخيرًا على الكنيسة أن تدرك أن سلطان تغير القلب هو في يد الله وحده. ووظيفتها الرئيسيّة هي الشهادة لعمل نعمة الله في المسيح وإعلان الحق الكتابيّ. ليس للكنيسة أي سلطان على تغير الإنسان فهذا من حق الله وحده.

د. ق. شريف جندي

 

المسيحيَّة والليبراليَّة

images

إن هدف هذه المقالة هو شرح الأبعاد المختلفة للتيار اللاهوتي الليبرالي المتحرِّر الذي تخلَّل كنائس عديدة في منطقتنا العربيَّة بشكلٍ عامٍ وفي بعض الطوائف الكنسيَّة في مصر بشكلٍ خاص. وللمتابعة الجيدة اذكر عدة نقاط هامة مبنيَّة على كتاب “المسيحيَّة والليبراليَّة” للمؤلف ج. جريشام مايتشن.

أولًا إن جذور التيار اللاهوتي الليبرالي هي فلسفة الطبعانيَّة أو الطبيعانيَّة (المذهب الطبيعي). بمعنى أن الفكر الليبرالي يرفض رفضًا باتًا كل ما هو فوق طبيعي. فهو يجعل من عقل الإنسان المعيار الرئيسي والأساسي والنهائي للحكم على الأمور وتقييمها وفهمها. فالإنسان بحسب الليبراليَّة هو سيِّد الكون ومركزه. وبالتالي فالليبراليَّة ترفض التدخُّل فوق الطبيعي لعمل الله في الخلق أو العناية أو الفداء في المسيح. فالفكر الليبرالي ليس فقط نظامًا فكريًّا مختلفًا عن المسيحيَّة لكنه أيضًا ينتمي إلى فئة مختلفة لتصنيف الأديان. بمعنى أخر، الفكر الليبرالي ليس فرعًا من فروع المسيحيَّة، وليس منهاجًا مسيحيًّا في التفكير، لكنه نظامٌ فكريٌّ مبنيٌّ على أسس ضد ما تُبنى عليه المسيحيَّة. فالمسيحيَّة الكتابيَّة تتأسَّس على مبادرة إعلان الله عن ذاته للإنسان في الخلق والعناية والفداء. وبالتالي فالمسيحيَّة أساسها هو العمل فوق الطبيعي لله كخالق وضابط الكل. الليبراليَّة في المقابل لا تقبل التدخُّل الإلهي في شؤون البشر وترفض كل ما هو فوق طبيعي. لهذا فافتراض أنه توجد “مسيحيَّة ليبراليَّة” هو تناقض مصطلحي ذاتي. لأن المسيحيَّة لا يمكنها أن تكون ليبراليَّة. والليبراليَّة في صميم تكوينها هي ضد المسيحيَّة. ومن هنا فكل من يتبع الفكر الليبرالي هو غير مسيحي وينتمي إلى تصنيف ديني أخر غير المسيحيَّة حتى وإن لقَّب نفسه “بالمسيحي” أو اشترك في مظاهر خارجيَّة للفكر المسيحي.

ثانيًا تركِّز الليبراليَّة في تعاليمها على التطبيق دون العقيدة. ينادي مُعتنقو الفكر الليبرالي أن المسيحيَّة هي حياة وليست عقيدة. ولهذا فهم يقلِّلون من أهميَّة العقيدة ويشدِّدون على التطبيق العملي لمبادئ الدين. الخطورة في هذا الفكر وما يجعله ضد المسيحيَّة هو أن المسيحيَّة هي حياة مبنيَّة على تعاليم كتابيَّة لأحداث تمت في التاريخ الإنساني. فالمسيحيَّة تأسَّست على أحداثٍ تاريخيَّة لعمل الله عبر تاريخ الإنسان. فالتلاميذ الأوائل نادوا برسالة الفداء والتي على أساسها تتغيَّر الحياة. فالمسيحيَّة ليست طريقة حياة بالمعنى المعاصر ولكنها حياة جديدة يحياها الإنسان بناءً على رسالة لها أبعاد تاريخيَّة. أعلن تلاميذ ورسل المسيح والكنيسة الأولى في إقرار إيمانهم أن “المسيح مات” وهذا حدث تاريخي، ثم أعلنوا “المسيح مات من أجل خطايانا” وهذه عقيدة. فبدون التاريخ والعقيدة لا توجد مسيحيَّة. فسرد الحقائق هو التاريخ، وسرد الحقائق مع شرح معاني الحقائق هو العقيدة. لهذا فالفارق الجوهري بين المسيحيَّة والليبراليَّة هو أن اجمالي الليبراليَّة يأتي في صيغة الأمر (افعل، اصنع، عش،…الخ) ذات النزعة الإلزاميَّة، بينما المسيحيَّة تبدأ بحدث خبري انتصاري (المسيح مات من أجل خطايانا وقام من أجل تبريرنا). تستهدف الليبراليَّة إرادة الإنسان بينما تُعلن المسيحيَّة عمل نعمة الله. لذا فالمسيحيَّة تُبنى على حدث تم في تاريخ الإنسان، ومهمة الخادم المسيحي الرئيسيَّة هي الشهادة لهذا الحدث.

ثالثًا تختلف الليبراليَّة بشكلٍ جذري عن المسيحيَّة في نظرتها لله والإنسان. فالليبراليَّة لا تسعى لمعرفة الله بل تكتفي فقط بالشعور بحضوره. يرى بعض الليبراليِّين أن السبيل لمعرفة الله هو فقط من خلال المسيح. وفي هذا خطأ كبير. فالمسيح نفسه أدرك أنه توجد طرق أخرى لمعرفة الله منها الطبيعة التي خلقها الله والتي تُعلن عن مجده وعظمته (مزمور 19: 1–6)، والناموس الطبيعي المكتوب في قلوب البشر وهو ناموس الله. وأخيرًا معرفة الله مُعلَنة لنا في الكتاب المُقدَّس (مزمور 19: 7–11).

تنادي الليبراليَّة بأبوَّة الله الكونيَّة وهذه الفكرة لا أساس لها في تعاليم المسيح. ففي حين أن الله هو أبو كل البشر بالخلق والعناية، يجعل الليبراليُّون من هذا “جوهر المسيحيَّة” بينما يُعلِّم العهد الجديد بأن أبوَّة الله الخاصة والمحدَّدة هي فقط لشعبه الذي فداه المسيح بموته وأصبح ضمن عائلة الإيمان. فبينما يشدِّد الليبراليُّون على أبوَّة الله لكل البشر، تحدَّث المسيح عن غضب الله ودينونته على جميع فجور الناس. فالله حقًا هو أبٌ محبٌّ ولكنَّه ليس أبًا محبًا لعالم فاسد وإنما لكل من قد جذبهم هو لملكوته بعمل ابنه يسوع المسيح.

في مقابل الفكر الليبرالي لأبوَّة الله الكونيَّة، تركِّز المسيحيَّة على صفة جوهريَّة لله وهي تعاليه وتساميه عن كل شيء وكل شخص. فهناك فارق شاسع جدًا بين الخالق والمخلوق. الخالق غير محدود أما المخلوق محدود، والخالق بار وقدُّوس أما الإنسان المخلوق ففاسد ومليء بالشرور.

إن تركيز المسيحيَّة على فساد طبيعة الإنسان وبشاعة الخطيَّة هو ما يقف في مقابل الليبراليَّة والتي قد تجاهلت الوعي والشعور الحقيقي بفظاعة الخطيَّة وتأثيرها ونتائجها. فالليبراليَّة تضع ثقتها العُليا في صلاحِ الإنسان. ففي حين أن الليبراليِّين يعترفون بالشر الموجود في العالم يُنادون بأنَّه يمكن التغلُّب على هذا الشر بالخير الموجود أيضًا في العالم. فلا حاجة لأي مُساعدة من خارج العالم. ومن هنا تشترك الليبراليَّة مع الوثنيَّة في الاعتقاد بأن الغاية العُظمى لوجود الإنسان هي في خلق مجتمع صحي ومتناغم وسعيد يتَّسم بقدرات إنسانيَّة متطوِّرة. فللوثنيَّة أتجاه متفائل من نحو طبيعة الإنسان دون أي مساعدات خارجيَّة، بينما المسيحيَّة هي ديانة القلب المنكسر. وفي حين أن المسيحيَّة لا تنتهي بالقلب المنكسر، إلا أنها تبدأ بالوعي الحقيقي لبشاعة الخطيَّة.

رابعًا رأينا أن الليبراليَّة قد أخطأت في نظرتها لله الحي وحقيقة الخطيَّة، هذا يقودنا لخطوة أخرى وهي مصدر العقيدة نفسها. ففي المسيحيَّة مصدر العقيدة هو الكتاب المُقدَّس المُوحَى به من الله. فالكتاب المُقدَّس يحوي تقريرًا إعلانيًّا من الله للإنسان لا نجده في أي مصدر أخر. هذا الإعلان يشمل في جوهره على طريق الخلاص والذي من خلاله يمكن للإنسان أن تكون له علاقة مع الله الحي الحقيقي. فطريق الخلاص قد أعدَّه ابن الله بموته وقيامته وهذا الحدث يشهد له العهد القديم ويتمركز حوله العهد الجديد. فالمسيحيَّة إذن لا تعتمد على افكار معقَّدة وإنما على سردٍ حدث تاريخي. وهذا الحدث التاريخي قد أتمَّ الخلاص في الماضي وتأثير هذا الحدث باقي معنا لليوم. الليبراليَّة في المقابل تجعل من الاختبار الشخصي للشعور بالحضور الإلهي كل ما هو ضروري لسعادة الإنسان. أما المسيحيَّة فترى أن الاختبار الإنساني لابد وأن يُبنَى على حدث تاريخي. فالاختبار المسيحي يمكن استخدامه بشكل صحيح عندما يؤكِّد على الدلائل المُوثَّقة تاريخيًّا وعندما يساعدنا على الاقتناع بصحة الأحداث التاريخيَّة التي يسجِّلها لنا الكتاب المُقدَّس. ولكن الاختبار في ذاته لا يجعلنا مسيحيِّين سواء تمَّت الأحداث أم لم تتم.

تؤمن المسيحيَّة بعصمة الكتاب المُقدَّس وخلوِّه من أي أخطاء سواء تاريخيَّة أو علميَّة أو جغرافيَّة. ذلك لأن مصدر الكتاب المُقدَّس هو الله نفسه (2 تيموثاوس 3: 16). والله المعصوم من الخطأ لا يُقدِّم إعلانًا غير معصوم. ولأن الكتاب المُقدَّس خالٍ من الخطأ فهو الدستور الوحيد المعصوم للإيمان والأعمال. فالله الذي يعبده المسيحي هو إله الحق وكل ما أوحى به هو حق (يوحنا 17: 17). فبينما هناك تفاوت في القوالب الأدبيَّة للنصوص المختلفة في الكتاب المُقدَّس ترجع لاختلاف الكتَّاب البشر الذين استخدمهم الله لتدوين إعلانه إلا أن ما كتبوه ليس مجرد كلام البشر وإنما كلام الله حقًا. لهذا فالاتِّكال على كلام البشر هو عبوديَّة بينما الاتِّكال على كلمة الله هو الحياة ذاتها. وهنا نرى أيضًا أن الليبراليَّة والمسيحيَّة مختلفان تمامًا عن بعضمها البعض، فأساس المسيحيَّة هو الكتاب المُقدَّس الذي تبني عليه طريقة تفكيرها وحياتها، بينما أساس الليبراليَّة هو المشاعر المتقلِّبة للإنسان الفاسد.

تنادي الليبراليَّة بأن الكتاب المُقدَّس “يحتوي” على كلمات الله ولكنه ليس هو نفسه كلمة الله. ويستخدم الليبراليُّون تعبيرات مخادعة في تعاليهم. مثلًا يقولون إن الكتاب المُقدَّس “يُصبح” كلمة الله لك عندما تقرأه وتستوعبه. والخطورة هنا هي جعل سلطان الكتاب المُقدَّس يتوقَّف على استيعاب الفرد له، ومن هنا أصبح الأمر شخصيًّا وليس موضوعيًّا. أيضا يرفض الليبراليُّون عصمة الكتاب المُقدَّس وخلوَّه من الخطأ وذلك لأنهم ينادون بوحي الفكرة والتي صاغها الإنسان بطريقته بينما تسلَّلت أخطاء هذا الإنسان في صياغته للفكرة. المشكلة هنا هي أن اللفظ وعاء لنقل الفكرة، فإن كان اللفظ خاطئ فبالضرورة الفكرة التي ينقلها اللفظ تكون خاطئة وغير صحيحة. فالفصل التام بين الفكرة واللفظ هو فصل وهمي غير صحيح.

تعلن المسيحيَّة في المقابل بأن الله أوحى بالروح القدس بكل كلمة في المخطوطات الأصليَّة للأسفار المُقدَّسة. فالوحي في المسيحيَّة هو وحي لفظي استخدم فيه الروح القدس مفردات تعكس خلفيَّة الكاتب الثقافيَّة ونشأته البيئيَّة دون أن يتسرَّب أي خطأ من الكاتب لما يدوِّنه. فالعصمة هنا ليست في الكاتب نفسه ولكن فيما كتبه حيث أوحى له الروح القدس بكل كلمة كي يدوِّنها. وهكذا فالمخطوطات الأصليَّة خالية تمامًا من أي خطأ. وحقًّا نحن لا نملك اليوم أيًّا من هذه المخطوطات الأصليَّة. وذلك بحسب حكمة الله العظيمة حيث يعلم بأن الإنسان لديه نزعة لصنع الأوثان من أشياء مثل هذا وقد يقدِّس ويعبد المخطوطات الأصليَّة نفسها دون الاهتمام بمحتوى النصوص المُوحَى بها. فربما كان سيعتقد الإنسان بأن المخطوطات الأصليَّة لديها قوَّة سحريَّة وسريَّة في الورق أو الحبر نفسه. مع ذلك نحن نمتلك آلاف المخطوطات لأسفار الكتاب المُقدَّس والتي عند مقارنتها ببعضها وبما بين أيدينا اليوم من أسفار في الكتاب المُقدَّس نرى أنها تتطابق مع بعضها البعض بشكلٍ كبيرٍ وندرك بأن لدينا سجلًا صحيحًا تمامًا لما كان في المخطوطات الأصليَّة.

خامسًا اختلاف الديانتين الليبراليَّة والمسيحيَّة في نظرتهما لمضمون الرسالة المسيحيَّة فيما يختص بالله والإنسان، واختلافهما في مصدر هذه الرسالة وهو الكتاب المُقدَّس، يقود لاختلاف أخر في وجهة نظر كل منهما للشخص الذي تتأسَّس عليه هذه الرسالة وهو المسيح. بالنسبة للمسيحيَّة المسيح هو هدف وموضوع الإيمان. فلبولس مثلًا عمل المسيح الفدائي هو أمر أساسي وجوهري. الإيمان عند بولس ليس مجرد إيمانٍ في الله مثل إيمان المسيح ولكنَّه الإيمان في المسيح. الليبراليَّة في المقابل تجعل من المسيح مثالًا وقدوةً للإيمان. بمعنى أنه مجرد إنسان عاش حياة صالحة يستحق بسببها أن يكون قدوة يُحتذى بها. فالمسيح بحسب الليبراليَّة هو مثالٌ للإيمان وليس موضوعًا أو هدفًا للإيمان. بمعنى أدق، بحسب الليبراليَّة يسوع هو مؤسِّس المسيحيَّة لأنه هو أول شخص مسيحي، وبالتالي فالمسيحيَّة بالنسبة لهم هي استمرار لتلك الحياة الدينيَّة التي أسَّسها يسوع.

والسؤال هنا، هل حقًا كان يسوع مسيحيًّا؟ بمعنى أخر، هل يمكن أن نجعل من المسيح مثالًا نقتدي به في كل الجوانب؟ هناك عدة إشكاليَّات تنبع من هذا السؤال. أولى هذه الإشكاليَّات هي وعي المسيح بطبيعته المسيانيَّة. فالمسيح كان مدركًا تمامًا أنه ابن الله العتيد أن يدين كل الأرض. وما يتبع هذه الإشكاليَّة هو اتجاه المسيح من نحو الخطيَّة. فالمسيح كان معصومًا من الخطيَّة بل ولم يكن فيه خطيَّة مطلقًا. فإن كانت المسيحيَّة في جوهرها طريقًا للخلاص من الخطيَّة، فيسوع إذن لم يمكن مسيحيًّا لإدراكنا أنه لم يكن لديه خطيَّة يحتاج الخلاص منها. فلماذا إذن ارتبط اسم اتباع المسيح الأوائل به؟ لقد ارتبطوا باسمه ليس بسبب كونه مثالًا وقدوةً لهم في الخلاص من الخطيَّة، ولكن لأنَّه هو نفسه وسيلة خلاصهم من الخطيَّة. إن علاقة المسيح بالآب مؤسَّسة على بنوَّته الأزليَّة أمَّا المسيحيَّة فهي تجعلنا أبناءً لله بالتبنِّي بفضل عمل المسيح الكفاري.

لذا فالليبراليَّة تجعل من المسيح مثالًا وقدوةً، وتجعله قائدًا ومرشدًا، أما المسيحيَّة فترى المسيح مُخلِّصًا وفاديًا، وإنسانًا فوق طبيعي، لأنه هو الله المتجسِّد، وهو موضوع الإيمان وهدفه. فعندما ترفض المعجزات وكل ما هو فوق طبيعي يتبقَّى لك مسيحٌ إنسانٌ طبيعي أثَّر في تابعيه لدرجة أنه بعد موته لم يستطيعوا أن يصدِّقوا أنه قد مات ورحل عنهم فانتابتهم هلاوس من خلالها أعتقدوا بأنهم رأوه ثانيةً مقامًا من الأموات. لكن عندما تقبل المعجزات وعمل الله فوق الطبيعي عندها ترى المسيح مُخلِّصًا جاء طوعًا واختيارًا لهذا العالم لأجل خلاصنا، وتألَّم من أجل خطايانا على الصليب، وقام ثانيةً من الأموات بقوةِ الله، ويحيا أبدًا ليشفع فينا.

من هنا رأينا أن الليبراليَّة ترى المسيح مختلفًا عن باقي البشر في الدرجة أو المكانة كونه مُعلِّمًا صالحًا وقدوةً حسنة، بينا لا تراه مختلفًا في النوع كونه ابن الله المُتجسِّد وله طبيعة إلهيَّة فوق طبيعيَّة.

سادسًا بجانب اختلاف الليبراليَّة عن المسيحيَّة في نظرة كلا منهما لله والإنسان، ثم في نظرتهما للكتاب المُقدَّس الذي يحوي الأخبار السارة، ثم في نظرتهما للمسيح الذي أتمَّ عمل إنجيل الأخبار السارة، فلا عجب إذن إن رأينا الليبراليَّة تختلف عن المسيحيَّة في صياغتها لمفهوم الأخبار السارة نفسها، فالليبراليَّة تُقدِّم مفهومًا مختلفًا تمامًا عن طريق الخلاص.

المسيح بحسب المسيحيَّة هو مُخلِّصنا ليس بفضل ما قاله، ولا حتى بفضل شخصه، ولكن بفضل ما صنعه. فهو مُخلِّصنا ليس لأنه مصدر الهامنا كي نحيا حياة تتشبَّه بحياته، ولكن لأنَّه أخذ في نفسه ذنب خطايانا البشع وحمله نيابةً عنَّا في الصليب. هذا هو مفهوم الخلاص وصليب المسيح بحسب المسيحيَّة الكتابيَّة.

في المقابل تُقدِّم الليبراليَّة نظريَّات عديدة لشرح كفَّارة وفداء المسيح. مثلًا، تشرح الليبراليَّة موت المسيح باعتباره مجرد مثالٍ للتضحية وبذل الذات علينا أن نضاهيه. أو أن موت المسيح يُظهر كم يكره الله الخطيَّة لذا نحن أيضًا علينا أن نكره الخطيَّة. أو أن موت المسيح يُظهر محبَّة الله. بناءً على كل هذه النظريَّات تتجاهل الليبراليَّة حقيقة وواقع ذنب الخطيَّة المرير وتُقدِّم في المقابل مجرد يقينٍ بإرادة الإنسان على اعتبار أنها كل ما هو مطلوب للخلاص. وفي حين أن هذه النظريَّات المختلفة لها جوانب من الحق، فموت المسيح هو مثالٌ للتضحية بالذات يحث الأخرين على بذل الذات، وموت المسيح أيضًا يُظهر أن الله يكره الخطيَّة ويُعلن محبَّة الله. كل هذه الحقائق موجودة حقًّا في العهد الجديد ولكنها مُتضمَّنة داخل حقيقة أعظم واسمى بكثير وهي: أن المسيح مات عنَّا لكي يُوقفنا بلا عيب قدام عرش الله. فبدون هذه الحقيقة المركزيَّة يصبح الباقي كله خاليًا من أي معنى. فمثال بذل الذات هو بلا قيمة لمَن هم تحت ذنب وعبوديَّة الخطيَّة، ومعرفة كراهيَّة الله للخطيَّة يُمكنها في حد ذاتها أن تجلب لنا الاحباط، وإظهار محبَّة الله هو مجرد استعراض ما لم يكن هناك سببٌ يقف خلف هذه التضحية.

ومن هنا نجد أن طريق الخلاص في المسيحيَّة من خلال صليب المسيح يعتمد على حدث تاريخي. فالمسيحيَّة تعتمد بشكل أساسي على التاريخ. وإن لم يكن هذا هو الحال، أي استقلال المسيحيَّة عن التاريخ، لأصبح لا وجود للإنجيل. لأن “الإنجيل” يعني “الأخبار السارة” أي أخبارًا أو أنباءً عن حدث قد تحقَّق. فالإنجيل بدون التاريخ هو تناقض مصطلحي.

لهذا يرفض الليبراليُّون المسيحيَّة لاعتمادها على التاريخ، وينتقدونها لأنها تدعو إلى طريق ضيِّق في الخلاص، بمعنى أنه بحسب المسيحيَّة يوجد طريق واحد فقط للخلاص، وهو المسيح. وبالفعل ما يُميِّز المسيحيَّة هو كونها تقتصر في فهمها للخلاص على عمل المسيح وحده. فالخلاص هو بالمسيح وحده. وما يجعل الأمر أشد جديَّة هو أن المسيحيَّة لا تُركِّز فقط على كون المسيح هو الطريق الوحيد للخلاص، لكنها أيضًا تُعلن وبكل وضوح رفضها لأي طريق أخر للخلاص. ففي عمل الخلاص يكسونا الله ببر المسيح كرداء حيث نقف في المسيح بلا عيب أمام عرش القضاء.

سابعًا يُركِّز الليبراليُّون على أخوَّة كل البشر الكونيَّة. بمعنى أن كل البشر بغض النظر عن الجنس والزمان والمكان هو أخوة. وبينما يوجد جانب من الصواب في هذا التعليم حيث إن لكل البشر نفس الخالق ونفس الطبيعة البشريَّة. لكن في نفس الوقت تُشدِّد المسيحيَّة على نوع أخر من الأخوَّة. إنها العلاقة الحميمة التي يؤسِّسها المسيح بين مَن يؤمنون به. فأي رجاء لإصلاح البشريَّة والمجتمع هو مبني فقط على الأخوَّة التي تنشأ بين الخطاة المولودين ثانيةً، أي المفدين. ولهذا تختلف المسيحيَّة عن الليبراليَّة في نظرة كل منهما للعمل الاجتماعي وإصلاح المجتمع. فبينما تُركِّز الليبراليَّة على الخير والصلاح الذي يفترضون وجوده في الإنسان تُؤكِّد المسيحيَّة على فساد وشر الإنسان وحاجته لفداء المسيح وعندها فقط ينال الحياة الجديدة والتي بدورها تنعكس على سلوكه في المجتمع وتصلح من عاداته وتقاليده.

لقد رأينا حتى الآن كيف أن الليبراليَّة هي ديانة أخرى غير المسيحيَّة وتختلف بالكامل عنها في عدِّة أوجه وهي: نظرة كل منهما لله والإنسان، ومفهوم كل منهما عن الكتاب المُقدَّس ووحيه وعصمته، ورؤية كل منهما لشخص وعمل المسيح، وفهم كل منهما للخلاص وإصلاح المجتمع. نأتي الآن لبعض التطبيقات العمليَّة للفكر الليبرالي في الواقع المعاصر.

بعض مظاهر التعاليم الليبراليَّة في مصر والعالم العربي

هناك عدة أوجه لتطبيقات الفكر الليبرالي بشكل عملي في مجتمعنا المصري أذكر منها الآتي.

1) رفض التاريخ وقبول الأساطير: يُنكر القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم تاريخيَّة أحداث الكتاب المُقدَّس خاصةً أحداث سفر التكوين الإصحاحات 1–11 بما فيها قصص الخلق والسقوط وكون آدم وحواء شخصيَّتين تاريخيَّتين عاشتا في زمنٍ ومكانٍ مُعيَّنين كأولى خليقة الله من البشر. في المقابل يصر الليبراليُّون على أن آدم وحواء هما شخصيَّتان أسطوريَّتان ليس لهما أصول تاريخيَّة. وهكذا الأمر في قصة الطوفان ونوح حيث يرفض الليبراليُّون الرواية الكتابيَّة ويُقدِّمون في المقابل نظريَّات تجعل من الطوفان حدثًا محدودًا من الناحية الجغرافيَّة عكس الطوفان الذي غطَّى كل الأرض كما يقدِّمه الكتاب المُقدَّس، أو قد ينكرون قصة الطوفان بجملتها. أيضًا يقبل الليبراليُّون نظريَّة التطوُّر في الخلق ويرفضون السرد الكتابي لخلق الإنسان على صورة الله بحسب تكوين 1–2.

2) رفض كل ما هو فوق طبيعي: يُنكر القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم وجود الشيطان ككائن خلقه الله وسقط في الخطيَّة وهو يغوي البشر ويقود الحرب ضد شعب الرب. ويفسِّر الليبراليُّون الاعتقاد بوجود الشيطان على أنه فكرة من اختراع البشر لإلقاء اللوم على كائن أخر يبرِّر من خلاله الإنسان فشله أو اخفاقاته. أيضًا يرفض الليبراليُّون حقيقة الجحيم والنار الأبديَّة ويُعلِّمون بخلاص كل البشر وفق مفهومهم الخاطئ عن رحمة الله وعدله.

3) إعلاء قيمة العقل البشري على السلطان الإلهي: يُنكر القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم المعجزات الكتابيَّة بكل أنواعها بما فيها معجزات المسيح وقيامته بالجسد من الأموات ويُقدِّمون في المقابل تبريرات عقلانيَّة لما “ظنَّه” كتَّاب أسفار الكتاب المُقدَّس على أنه معجزات فوق طبيعيَّة بحسب تفسيرهم.

4) المناداة بصلاح الإنسان: يُنكر القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم حقيقة بشاعة الخطيَّة ويتهاونون في التعامل مع الأشرار بل ولا يعترفون أو يمارسون التأديب الكنسي الذي هو جزء أساسي من وظائف الكنيسة بحسب كلمة الله. كذلك يرفضون حصر الخلاص على عمل المسيح وحده وينادون بأن باقي الأديان والمعتقدات هي طرق مختلفة تؤدِّي في النهاية لنفس المصير من العلاقة مع الله.

5) المناداة بالحريَّة المُطلقة للإنسان: يقبل ويشجِّع القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم الطلاق والزواج ثانيةً لأي سبب وكل سبب تحت الادعاء بأن ثقافة المجتمعات المعاصرة لها من تحدياتها ما لم يكن موجودًا وقت كتابة أسفار الكتاب المُقدَّس وبالتالي لا بد من إيجاد طرق وحلول بديلة لما يُقدِّمه الكتاب المُقدَّس.

6) رفض وحي الكتاب المُقدَّس وعصمته وسلطانه: ينادي القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم بأن هناك فارق بين ما يقوله الله بشكل مباشر في الكتاب المُقدَّس وما يدوِّنه الكتاب من خلال أناس على لسان الله. وهذا التقسيم مُضلِّل وزائف. حيث إن كل كلمة في الكتاب المُقدَّس هي بوحي من الله ولها نفس السلطان والعصمة. فما قاله داود مثلًا عن الله في سفر المزامير هو بوحي من الله وله نفس سلطان ما قاله الله بنفسه في ناموس موسى. ذلك لأن الكتاب المُقدَّس نفسه يشهد لداود وكتاباته على أنه نبي وملك بحسب قلب الله. فالكتاب المُقدَّس هو ليس مجرد سجلٍّ لخبرة الإنسان مع الله لذا يحوي أخطاء علميَّة وتاريخيَّة، كما يدَّعي الليبراليُّون، لكنَّه في المقامِ الأول رسالة من الله للإنسان، ولهذا فهو معصوم من أي خطأ.

كذلك يُنادي الليبراليُّون أيضًا بأن الثقافة المُحيطة بزمن كتابة الكتاب المُقدَّس كانت ثقافة ذكوريَّة أبويَّة تقمع المرأة وتستعبدها. ويدَّعي هؤلاء أن هناك من النصوص الكتابيَّة ما يعكس ذلك. أما فالآن وفي ظل التنوير والتقدُّم والتطوُّر ينبغي أن نعطي المرأة مكانتها بجعلها مساوية للرجل في كل شيء بما فيه السماح للمرأة أن تُعلِّم في الكنيسة وأن تُرتَسم كقسيسة أو راعية بالرغم من رفض الكتاب المُقدَّس لذلك بكل وضوح.

7) التمرُّد على النظام الإلهي: يشجِّع القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم على قبول الشذوذ الجنسي مُدَّعين أنه أحد مكوِّنات الجينات البشريَّة التي خلقها الله في الإنسان. وبالتالي ليس هناك ما يمنع من ممارسة الشذوذ خاصةً وأن الأمر مُتعلِّق برغبات الفرد التي ينبغي أن تُحتَرم. ذلك لأنه وبحسب الفكر الليبرالي الإنسان هو مركز الكون وليس الله. ومن هنا فهم لا يُمانعون من زواج الشواذ ورسامتهم قسوسًا ومعلِّمين في الكنائس.

8) الوحدة على حساب الحق: ينادي القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم بالوحدة بين اتباع الطوائف المختلفة والأديان المختلفة على حساب المُساومة على الحق. وفي سبيل هذه الوحدة المزعومة يمزجون بين المعتقدات الدينيَّة والعقائد الإيمانيَّة لخلق عقائد جديدة تجمع بين النقيضين في تناغم ظاهري كاذب. نرى هذا مثلًا في ممارسة التواشيح الدينيَّة المُشتركة بين أتباع الديانات المختلفة. وفي المناداة بأن أصحاب الديانات الأخرى، كالإسلام، يعبدون نفس الإله الذي يعبده المسيحيُّون. فنجد القسوس الليبراليُّون يفتتحون أحاديثهم العامة بعبارات مثل: “باسم الله الذي نعبده جميعًا”. فهل حقًا يعبد الجميع نفس الإله؟ ألم يقل المسيح أن من يرفضه يرفض الآب ومن يقبله يقبل الآب (يوحنا 13: 20؛ قارن يوحنا 5: 23–24؛ 8: 19، 42؛ 12: 44-45؛ 14: 7؛ 15: 21، 23)؟

9) رفض الكرازة والتركيز على العمل الاجتماعي: يرفض القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم الكرازة بإنجيل يسوع المسيح ويركِّزون في المقابل على العمل الاجتماعي الذي يطلقون عليه خطأ “الإنجيل الاجتماعي” حيث إنه لا يوجد سوى إنجيل واحد ولا يوجد آخر بحسب غلاطية 1: 6–7.

10 (رفض النبوَّات الكتابيَّة وخاصةً نبوَّات العهد القديم: يفهم القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم نبوَّات العهد القديم على أنها أسلوب أدبي لكتابة أحداث تمت في الماضي. فمثلًا يعتقد الليبراليُّون بأن نبوَّات سفر إشعياء بالعودة من السبي كُتب كلها بعد العودة من السبي. والهدف هو تشجيع العائدين من السبي من خلال هذه الكتابات. كذلك يرفض الليبراليُّون نسب الأسفار الخمسة الأولى في العهد القديم لموسى باعتباره الكاتب بالرغم من الشهادات الكتابيَّة الكثيرة على ذلك (شهادة الأسفار الخمسة نفسها لموسى ككاتب: خروج 17: 14؛ 24: 4؛ 34: 27؛ عدد 33: 1–2؛ تثنية 31: 9-11، شهادة العهد القديم لموسى: يشوع 1: 7-8؛ 8: 31–32؛ 1 ملوك 2: 3؛ 2 ملوك 14: 6؛ 21: 8؛ عزرا 6: 18؛ نحميا 13: 1؛ دانيال 9: 11-13، ثم شهادة المسيح ورسل العهد الجديد: مرقس 12: 26؛ لوقا 16: 29؛ 24: 27؛ يوحنا 5: 45-47؛ رومية 10: 5؛ 1 كورنثوس 9: 9؛ 2 كورنثوس 3: 15). وينسبون الكتابة لمصادر مختلفة كُتبت في وقت متأخِّر جدًا من تاريخ إسرائيل دون وجود دلائل ماديَّة على ذلك.

11) تعليم مركزه الإنسان: يركِّز القسوس والمعلِّمون الليبراليُّون وأتباعهم في علم المشورة على المشورة النفسيَّة التي تعتمد على علم النفس والاجتماع دون الرجوع والاستناد الكلي على كلمة الله المُقدَّسة ذات السلطان الرئيسي في شؤون البشر. بل إنَّهم يرفضون المشورة الكتابيَّة تمامًا. وهذا يعكس تشديد الليبراليَّة على مركزيَّة الإنسان بالرجوع لعلم النفس، ورفضهم لمركزيَّة الله بعدم الرجوع لكلمته.

من هنا نخلص بأن لليبراليِّين إرساليَّة وهدف، إرساليتهم هي تدمير ملكوت الله. فهم في حرب ضد المسيحيَّة يستخدمهم فيها إبليس وأعوانه. بينما إرساليَّة الكنيسة المسيحيَّة كما تسلَّمتها من المسيح نفسه هي الكرازة بإنجيل يسوع المسيح لبناء وامتداد ملكوته بين البشر. علينا أن ندرك أن حربنا ليست مع الليبراليِّين وإن كنَّا نختلف معهم تمامًا ونرفض تعاليهم ونواجهها بل ونقاومهم بإنجيل يسوع المسيح. حربنا الحقيقيَّة هي مع قوات الشر الروحيَّة التي تقف خلف الليبراليِّين تحرِّكهم وتقودهم في إرساليَّتهم لتدمير ملكوت الله. فلأي إرساليَّة تنتمي وفي أي إيمان تعتقد؟

د. ق. شريف جندي