في آخر احتفال للمسيح مع تلاميذه بعيد الفصح اجتمع معهم حول مائدة عشاء الفصح (مرقس 14: 12). وكان ذلك إتمامًا لوصية الله بصنع الفصح إحياءً لذكرى تحريره لبني إسرائيل من أرض العبوديَّة في مصر (خروج 12: 1-28). كان دم ذبيحة خروف الفصح هو العلامة التي تشير للخلاص الذي قدَّمه الله بنعمته لشعبه في القديم. ولهذا فذبيحة الفصح هي صورة ومثال لذبيحة المسيح التي فيها قدَّم دم نفسه مرة واحدة على الصليب من أجل فداء شعبه (عبرانيين 7: 27؛ 9: 12؛ 1 بطرس 1: 19؛ 3: 18). لهذا هتف الرسول بولس أن المسيح فصحنا (أي خروف أو حمل الفصح) قد ذُبح لأجلنا (1 كورنثوس 5: 7).
في تلك الليلة التي فيها جلس المسيح وحوله تلاميذه أسَّس فريضة العشاء الرباني حين أخذ الخبر وشكر وكسَّر وأعطى تلاميذه قائلاً: “خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي”، ثم بعد العشاء أخذ الكأس وشكر وأعطى تلاميذه قائلاً: “اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا” (متى 26: 26–28).
والسؤال هو: لماذا أختار المسيح هذه الليلة تحديدًا وفي وسط الاحتفال بالفصح كي يؤسِّس هذه الفريضة؟ وما علاقة الفريضة بموت وقيامة المسيح؟
كان خروج شعب إسرائيل من أرض مصر بيد الله القديرة هو عمل خلاصي قال عنه موسى للشعب: “لاَ تَخَافُوا. قِفُوا وَانْظُرُوا خَلاَصَ الرَّبِّ الَّذِي يَصْنَعُهُ لَكُمُ الْيَوْمَ” (خروج 14: 13). كلمة “خلاص” في اللغة العبريَّة هي “يشوعات” وهي نفس الكلمة التي يأتي منها اسم “يشوع” أو “يسوع” الذي يعني الخلاص. فخروج شعب إسرائيل من أرض مصر وعبورهم البحر الأحمر هو عمل للخلاص أقامه الله وسطهم فيه قاتل عنهم وهم صامتون (خروج 14: 14). وفي يوم الخلاص هذا وقبل الخروج من مصر صنع شعب إسرائيل فريضة الفصح كما أمر الرب (خروج 12: 51).
أوصى الرب أن يُرش دم خروف الفصح على العتبة العليا والقائمتين لبيوت شعب إسرائيل حتى يرى الملاك المُهلك الدمَ حين يمر في أرض مصر فيعبر عن أهل البيت دون أن يموت البكر (خروج 12: 7–13). وهكذا كان الفصح هو الحدث الأخير والمباشر قبل الخروج من مصر.
حين نأتي للعهد الجديد نجده يربط بين خروف الفصح وشخص المسيح وعمله الكفاري من عدة أوجه.
أولًا، يتحدَّث العهد الجديد عن ذهاب المسيح للصليب وموته وقيامته وصعوده للآب بلغة “الخروج”. حين ظهر موسى وإيليا بمجدٍ على جبل التجلِّي تكلَّما مع المسيح عن “خروجه” (لوقا 9: 31). كلمة “خروجه” في اللغة اليونانيَّة هي “إكسودس” وهي نفس الكلمة المُستخدمة في الترجمة السبعينيَّة للعهد القديم باللغة اليونانيَّة عن خروج شعب إسرائيل من مصر (خروج 19: 1)، وهي أيضًا نفس الكلمة المُستخدمة لاسم سفر الخروج الذي يتحدَّث في مجمله عن خروج شعب إسرائيل من مصر. فموت المسيح وقيامته ورجوعه للآب هو بمثابة خروجه من أرض الغربة. كان تجسُّده بمثابة نزوله لأرض العبوديَّة والشقاء ليحمل خطايا شعبه في جسده على الصليب. لذلك صنع المسيح الفصح الأخير مع تلاميذه مباشرةً قبل خروجه من الأرض.
ثانيًا، صنع المسيح تحوُّلاً جذريًّا في هذا الفصح الأخير مع تلاميذه. فهو لم يأكل الفصح كمجرد عادة شعب إسرائيل كل عام منذ الخروج من مصر. لكنَّه في هذا العام وبحسب خطة الفداء الإلهي جاء الوقت المُعيَّن لكي يعلن الله من خلال المسيح عمَّا كانت تشير إليه ذبيحة خروف الفصح، أي جسد المسيح ودمه. ولهذا أخذ المسيح الخبز والكأس ليصنع فريضة العشاء الرباني ليس فقط لجعلها ذكرى للتلاميذ كي يتذكَّروا موته، ولكن كي يعلن أيضًا أنه بموته وقيامته قد تمَّم بنفسه وفي عمله ما قد أشار إليه خروف الفصح. ولهذا اختار المسيح هذه الليلة تحديدًا لكي يربط بين ما كانت تشير إليه ذبيحة الفصح وعمله الفدائي على الصليب.
فالمسيح جاء متممًا ومحقَِقًا لما أشار إليه خروف الفصح. فدمه المسفوك على الصليب كان إتمامًا لعمل الخلاص مثلما أشار دم خروف الفصح بصورة مصغرة.
ثالثًا، حين أسَّس الله فريضه الفصح لشعبه كان قد أوصاهم ألا يكسروا عظمًا من عظام خروف الفصح (خروج 12: 46؛ عدد 9: 12). ولأن المسيح هو خروف الفصح، لم يكسر العسكر الروماني عظمًا من عظامه على الصليب على الرغم من أنهم كسروا ساقي اللصين الأخرين (يوحنا 19: 32–33، 36).
رأينا علاقة فريضة العشاء الرباني بخروف الفصح، لكن ما علاقتها بموت وقيامة المسيح؟
قدَّم شعب إسرائيل ذبائح محرقات وسلامة للرب بعد خروجهم من أرض مصر وهم في البريَّة احتفالًا بالعهد الذي قطعه معهم بعد خلاصه لهم من أرض العبوديَّة في مصر. وبعدما رشَّ موسى من دم الذبائح على الشعب قال لهم: “هُوَذَا دَمُ الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَكُمْ” (خروج 24: 8). نرى في كلمات المسيح حين أخذ كأس العشاء الأخير صدى لكلمات موسى هذه حين قال المسيح: “هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ” (متى 26: 28). ثم يقول الكتاب المقدس أن موسى ومَن معه من شيوخ إسرائيل رأوا الله وأكلوا وشربوا بعد أن رشَّ موسى دم الذبائح على الشعب (خروج 24: 11).
فكانت هذه الوليمة هي بمثابة وليمة العهد الذي قطعه الله مع شعبه حين قدَّم الشعب ذبائح سلامة (خروج 24: 5). فالأكل من الذبيحة يعني أن الشعب في سلام مع الله، أي في عهد معه. وبالمثل في العهد الجديد نقترب إلى الله على أساس ذبيحة المسيح، ونأكل ونشرب من وليمة العهد (الخبز والكأس) لأننا في سلام مع الله بالمسيح. يقول بولس: “فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (رومية 5: 1). كذلك في المسيح نرى صورة الله مُعلنة لنا كما رأى موسى ومَن معه الله (2 كورنثوس 4: 4؛ فيلبي 2: 6؛ كولوسي 1: 15).
في الكتاب المقدس نرى عبر تاريخ الفداء ولائم أخرى تمت في إطار قطع عهودًا سواء بين الله وشعبه أو بين أشخاص وبعضهم. مثلاً أكل موسى ومعه شيوخ إسرائيل طعامًا مع يثرون حمي موسى أمام الله بعد أن أخذ يثرون محرقة وذبائح لله (خروج 18: 12). كذلك أيضًا ذبح يعقوب ذبيحة في الجبل ودعا إخوته ليأكلوا طعام العهد الذي قطعه مع لابان (تكوين 31: 43–54).
تنبَّأ إشعياء عن اليوم الذي فيه سيمسح الله الدموع عن وجوه شعبه حين ينزع عارهم عن كل الأرض ويبلعُ الرب الموتَ إلى الأبد (إشعياء 25: 6–9). اقتبس العهد الجديد نبوَّة إشعياء هذه في 1 كورنثوس 15: 54؛ ورؤيا 7: 17؛ 21: 4. ففي اليوم الذي فيه يقضي الله على الموت سيحتفل مع شعبه بوليمة عظيمة من سمائن وخمر. سيكون يومًا للاحتفال بالله الذي أنتصر على كل أعداءه، والعدو الأخير هو الموت. في ذلك اليوم سيقيم الله وليمةً للاحتفال بالمسيح وسيط وضامن العهد يدعو إليها كل شعبه من جميع الأمم ليجلسوا حوله ويتمتَّعوا بشركة إلههم مع بعضهم البعض (قارن متى 8: 10–11). سيكون عشاء عُرس الخروف وليمة العهد من خلالها سيسكن الله وسط شعبه بشكل كامل وتام (رؤيا 19: 7، 9؛ 21: 3).
هكذا نرى في فريضة العشاء الرباني، وليمة العهد الجديد، صورةً لوليمة أعظم سيقيمها الله بنفسه لشعبه في ملكوته الأبدي. لهذا قال المسيح بعد أن صنع العشاء الرباني: “إِنِّي مِنَ الآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هذَا إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي” (متى 26: 29).
لقد أسَّس المسيح فريضة العشاء الرباني كوليمة للعهد الجديد الذي قطعه بدمه المسفوك على الصليب فداءً وكفَّارة لشعبه. وهو يدعونا أن نتقدَّم إلى هذه الوليمة كي نشترك في نعمة العهد وننال بركات العهد كعلامة السلام الذي صنعه بيننا وبين الله حيث صارت لنا شركة مقدَّسة مع الله.
هللويا المسيح فصحنا قد ذُبح، وقام من الأموات أسدًا ظافرًا على الموت. في الصليب والقيامة نرى الحمل والأسد مجتمعين معًا في شخص المسيح.
د. ق. شريف جندي