عهد الأعمال والاعتراض عليه

يعترض البعض على وجود عهدا للأعمال قطعه الله مع آدم في جنة عدن. ويأتي أهم وأشهر اعتراض في صورة سؤال: كيف يكون هناك عهدا في سفر التكوين اصحاح 2 لو أن موسى (كاتب السفر) لم يكتب هذا صراحة؟ ذلك لأن كلمة “عهد” لم تُستخدم في أول اصحاحين من سفر التكوين. فأول ظهور للكلمة العبرية المترجمة عهد في سفر التكوين هو في اصحاح 6. ولهذا يأتي الاعتراض أنه لا يوجد عهد في الكتاب المقدس إلى أن نصل إلى تكوين 6. ولذلك يخلص البعض إلى أن عهد الأعمال هو عهد غير كتابي ويفتقر إلى أي سند من الكتاب المقدس. فالتعليم عن عهد الأعمال هو من صنع الإنسان وليس إعلانا من الله، فهو لاهوت من صنع البشر وليس من صنع الله. فهل هذا الاعتراض صحيح ومنطقي؟ هل فعلا لا يوجد عهدا للأعمال في تكوين 2؟ سأجاوب على هذا الاعتراض في أربعة نقاط أساسية.

أولًا، المصطلح والمفهوم:

هذا الاعتراض يفترض أنه إن لم يكن المصطلح موجود في النص فالمفهوم الذي يدل عليه هذا المصطلح غير موجود أيضا. هذه مغالطة بين المصطلح والمفهوم. فالكتاب المقدس نفسه يرى مفاهيما في النصوص ثم يستخدم مفردات أو مصطلحات غير موجودة في النص المشار إليه لوصف تلك المفاهيم. على سبيل المثال، انظر إلى أعمال الرسل 2: 22 – 31. هنا يشير بطرس لمزمور 16: 8 – 11 ويقتبس منه. ثم لاحظ ما يفعله في الأية 32. حيث يستخدم بطرس مصطلحات غير موجودة في المزمور لوصف المفاهيم التي يقدمها المزمور. يقول بطرس أن داود “سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ.” المصطلحين “قيامة” و”المسيح” غير موجودين في المزمور. هنا يستخدم بطرس مفردات لوصف المفاهيم الضمنية في المزمور وإن لم يكن كاتب المزمور قد استخدم هذه المفردات بشكل صريح. النقطة الرئيسية هي هذه: يمكن أن يكون هناك مفاهيم في النصوص دون استخدام المصطلحات التي نستخدمها عادة لوصف هذه المفاهيم. كذلك ينطبق الحال على عقيدة الثالوث. مصطلح “ثالوث” غير موجود في الكتاب المقدس. ومع ذلك التعليم عن عقيدة الثالوث ومفهوم وجود ثلاثة أقانيم في شخص الله موجود في الكتاب المقدس كله دون استخدام للمصطلح نفسه.

ثانيًا، هناك مصطلحات مستخدمة بعد أحداث قصة جنة عدن لوصف آدم ودعوته وهي لم ترد في سرد أحداث تكوين 1 – 2.

لننظر مثلا لثلاثة نصوص:

في لوقا 3: 38، دُعي آدم “ابن الله”. ولكن موسى لا يدعو آدم ابن الله في سفر التكوين، وفي الواقع، فإن كلمة “ابن” تأتي لأول مرة في تكوين 4: 17 للإشارة إلى ابن حنوك. فالفكرة الرئيسية هي أنه لو قال الله عن آدم أنه ابن الله فلا يهم أين قال هذا. فالأمر منتهي، حتى لو قال الله ذلك في لوقا 3. أيضا، لم يصبح آدم لأول مرة ابن الله عندما ذكرها لوقا في إنجيله. بل كان آدم على هذا النحو في خلقه. وبالتالي فإن مفهوم آدم كابن الله موجود ضمنا في سرد أحداث تكوين 1 – 2 على الرغم من أن كلمة “ابن” غير موجودة هناك.

في رومية 5: 14 يُدعى آدم “مِثَالُ الآتِي”. ولكن موسى لم يدعو آدم مثال المسيح في سفر التكوين، وفي الواقع كلمة “مثال” تأتي لأول مرة في رومية 5: 14. لو قال الله إن آدم هو مثال المسيح، فلا يهم أين قال هذا. فالأمر محسوم، حتى لو قال ذلك في رومية 5. أيضا، لم يبصح آدم لأول مرة مثال المسيح عندما قال بولس ذلك في رومية. وبالتالي فإن مفهوم آدم كمثال المسيح موجود ضمنا في سرد أحداث تكوين 1 – 2 على الرغم من أن كلمة “مثال” غير موجودة هناك.

في 1 كورنثوس 15: 22 يقول بولس: “لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، …” ومع ذلك، لم يخبرنا موسى أن آدم كان ممثلا ونائبا عن البشر في سرد أحداث سفر التكوين. فعبارة “في آدم” ليست في سفر التكوين أو في أي مكان آخر في العهد القديم. وفي واقع الأمر، تأتي عبارة “في آدم” مرة واحدة فقط في 1 كورنثوس 15: 22. إن قال الله “فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ”، فلا يهم أين قال هذا. فالأمر محسوم، حتى لو قال ذلك في 1 كورنثوس 15. أيضا، لم يمت الجميع في آدم فقط عندما قال بولس ذلك في 1 كونثوس 15. وبالتالي فإن مفهوم آدم باعتباره ممثلا ونائبا عن الجنس البشري في الجنة هو مفهوم ضمني في سرد أحداث الجنة على الرغم من أن عبارة “في آدم” غير موجودة هناك.

ثالثًا، يستخدم الكتاب المقدس نفسه، بالنظر إلى قصة آدم في الجنة، لغة واضحة عن العهد.

انظر إلى شرح موسى اللاحق بوحي من الروح القدس لأعمال الله في الخلق كما هو مسجل لنا في تكوين 2: 4 وما يليها. من المهم أن نفهم العلاقة بين أعمال الله والكتاب المقدس. فإلى حد كبير، الكتاب المقدس هو تسجيل، وتفسير، وتطبيق لأعمال الله السابقة. وبعبارة أخرى، لم يقوموا كتّاب الكتاب المقدس بمجرد تسجيل أعمال الله (كما في سرد أحداث الجنة)، بل أيضا فسروها، أي أنهم قاموا بصياغة اللاهوت من خلال أعمال الله وذلك كله بوحي من الروح القدس. على سبيل المثال، عاش ربنا يسوع المسيح ومات قبل يُعطى لنا التفسير الإلهي لآلامه ومجده في صورة أسفار العهد الجديد. وبالمثل، فإن عمل الله كخالق حدث قبل أن يكتب موسى عن هذا الأمر. فالفكرة الرئيسية هي هذه: في تكوين 2: 4 يتحول موسى من مصطلح “إلوهيم” “الله” لعبارة “يهوه إلوهيم” “الرب الإله”، حيث أن كلمة “يهوه” “الرب” هو الاسم الذي أعلنه الله عن نفسه في إطار العهد وهو معروف بهذا الاسم من قبل أولئك الذين كتب إليهم موسى، أي بني إسرائيل (قارن خروج 3: 14، لاحظ تكرار الرب للعبارة العهديّة “أَنَا إِلهُ أَبِيكَ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ” في الآيات 6، 13، 15، 16، 4: 5). فموسى ينتقل في تكوين 2: 4 من قصة الخلق بشكل عام إلى قمة الخلق، الإنسان في صورة الله ومسؤوليته أمام الله. فاستخدام كلمة “الرب” هنا هو إشارة إلى الوضع العهدي للإنسان في علاقته بالله. هذا يشير إلى أن العهد وخلق الإنسان يسيران جنبا إلى جنب. موسى، شارحا لعمل الله في الخلق، يستخدم الاسم العهدي لله في سياق الحديث عن آدم ودعوته في جنة عدن.

انظر إلى كلمات النبي إشعياء:

وَالأَرْضُ تَدَنَّسَتْ تَحْتَ سُكَّانِهَا لأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا الشَّرَائِعَ، غَيَّرُوا الْفَرِيضَةَ، نَكَثُوا الْعَهْدَ الأَبَدِيَّ. لِذلِكَ لَعْنَةٌ أَكَلَتِ الأَرْضَ وَعُوقِبَ السَّاكِنُونَ فِيهَا. لِذلِكَ احْتَرَقَ سُكَّانُ الأَرْضِ وَبَقِيَ أُنَاسٌ قَلاَئِلُ. (إشعياء 24: 5 – 6)

وهنا نلاحظ أولا أن اللعنة التي امتدت إلى كل الأرض جاءت بسبب التعدي على الشرائع، وانتهاك الفرائض، وكسر العهد. ثانيا، بما أن الأرض قد لُعنت بسبب خطية آدم كممثل لنا ونائب عنا، فقد كسر آدم العهد في جنة عدن وآثار كسر عهده يؤثر على “السَّاكِنُونَ فِيهَا”. ثالثا، هنا يكتب النبي إشعياء بعد فترة طويلة من خلق آدم وبعد فترة طويلة من وقت كتابة موسى، مستخدمًا لمفاهيم ظهرت لأول مرة مع آدم لشرح ذنب الإنسان في كل مكان.

انظر لكلمات هوشع النبي.

أولًا، في هوشع 6: 7 ارتبط إسرائيل بآدم. “وَلكِنَّهُمْ كَآدَمَ تَعَدَّوْا الْعَهْدَ…” (هوشع 6: 7). ثانيًا، كسر كلا من آدم وإسرائيل عهدا وضعه عليهم الله. كلاهما عصى الله، وأخطأوا وكسروا العهد. ثالثًا، كلا من العهدين كان مشروطا، حيث تطلب كل عهد الطاعة من أولئك الذين في العهد لكي يستمتعوا ببركات العهد. “…لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ” (تكوين2: 17، قارن خروج 19: 5 – 6 للطبيعة المشروطة للعهد الموسوي). رابعًا، هنا نرى نبي آخر ينظر إلى إعلان سابق، معلنا بشكل صريح ما كان ضمنا في السابق. فالإعلان اللاحق يعلن بشكل صريح ما كان ضمنا في الإعلان السابق. حيث يعطينا النبي بوحي فهم الله لإحدى أوجه الشبه بين إسرائيل القديم وآدم. كلاهما كان في عهدٍ مع الله وكلاهما تجاوز العهد وكسره.

رابعًا، نأتي الآن للسؤال: لماذا يطلق عليه عهد الأعمال؟

يطلق على العهد الذي قطعه الله مع آدم بعهد الأعمال حيث ترجع هذه التسمية إلى حقيقة أن العهد كان مشروطا بطاعة آدم أو بأعماله. فمصطلح “أعمال” في عبارة “عهد الأعمال” هو مرادف “الطاعة”. وهو مصطلح يعكس شرح الكتاب المقدس (وبالتالي شرحا معصوما) لاحقا لدعوة آدم في جنة عدن (رومية 5: 12 – 21). فرومية 5: 19 تشير لهذا المصطلح حيث يقول: “لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هكَذَا أَيْضًا بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا”. فعكس “المعصية” هو “الإطاعة”. ومرادف “الإطاعة” هو “الأعمال”. مصطلح “أعمال” هو أيضا خيار جيد لأنه يتباين مع “النعمة والعطية” في رومية 5: 17 يقول بولس:

“لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ الْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ بِالْوَاحِدِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا الَّذِينَ يَنَالُونَ فَيْضَ النِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ الْبِرِّ، سَيَمْلِكُونَ فِي الْحَيَاةِ بِالْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ!”

فعصيان آدم جلب الموت، أما طاعة المسيح فتجلب الحياة، نوع من الحياة لم تكن لدى آدم، أي الحياة الأبدية (يوحنا 17: 3).

الخلاصة:

من الواضح لنا إذن أن الكتاب المقدس يشهد عن عهدا للأعمال صنعه الله مع آدم. فأحداث تكوين 1 – 2 تحتوي على أكثر مما تراه العين. فهي قصة لسرد الأحداث، وليست مقالا لاهوتيا شاملا يستخلص كل الآثار المترتبة سواء ضمنا أو افتراضا في المصطلحات التي تستخدمها. هذه القصة هي واحدة من تلك النصوص التي يتم الإشارة لها عدة مرات في الإعلان اللاحق. فنصوص أخرى تشير إليها وتستخلص منها ما هو ضمني فيها. فما هو ضمني فيها يصبح واضح في كلمة الله المعصومة والموحى بها لاحقا. فقد كان كتّاب الكتاب المقدس لاهوتيين قبل كل شيء. تذكر هذا المبدأ جيدا: الإعلان اللاحق يعلن بشكل صريح ما كان ضمنا في الإعلان السابق. وبعبارة أخرى، فإن الكتاب المقدس في كثير من الأحيان يقدم تعليقات ويفسر نفسه. وفي حالة آدم في الجنة هذا بالضبط ما حدث. حيث يستخدم الكتاب المقدس لغة عهديّة في بعض الأحيان عندما ينظر للماضي حيث دعوة آدم في عدن ويستخدم لغة تبرر مصطلح “الأعمال” لوصف طبيعة هذا العهد. ببساطة لمجرد أن عبارة “عهد الأعمال” غير موجودة في التكوين 1 – 2 هذا لا يعني أن المفهوم غائب وغير موجود. فعهد الأعمال هو التكليف الرئيسي لآدم من الله في عدن لكي يتسلط على كل الخليقة والتي كانت بطبيعة الحال تحت رباط وقسم وحكم وقانون عهدي (اقرأ إرميا 5: 22، أيوب 38: 33). فكل الخليقة وُضعت تحت عهد وقوانين. وهذا شمل على الأرض نفسها، وكذلك الملائكة. فالفكرة الرئيسية هي أن الإنسان باعتباره حامل لصورة الله قد أُعطي سلطان على الممالك الأرضية. لذا فعهد الأعمال لآدم كان ببساطة جزءً من هذا العهد الأكبر الذي ربط كل الخليقة. وهذه الحقائق تصطدم بشكل رئيسي في تكوين 3 حين جاءت الحية وحواء للعصف بشريعة الله، أي عهده. ولهذا فكل إنسان اليوم إما واقع تحت لعنة كسر آدم لعهد الأعمال أو داخل عهد النعمة بعمل المسيح.[1]

د. ق. شريف جندي

 

[1]  جزء كبير من هذه المقالة مترجم من

http://www.rbap.net/a-typical-objection-to-the-covenant-of-works

130520-covenant-works

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s