في إنجيل يوحنا إصحاح 8 جاء الكتبة والفريسيون بامرأة للمسيح قد أُمسكت في زنا وغفر لها المسيح خطاياها وحررها من عبودية الخطية (الآيات 2 – 11). ثم بعدها أعلن المسيح أنه لم يأتي ليدين أحد بل ليعطي حياة لكل من يؤمن به (الآيات 12 – 29). وقد آمن بكلامه كثير من اليهود ولكنهم تعثروا في فهم تعاليمه بشأن كونهم عبيدا للخطية وأن الحق وحده هو الذي يحررهم منها. وعندما صرّحوا بأنهم أبناء إبراهيم ولذا فهم ليسوا عبيدا لأحد واجههم المسيح بحقيقة أنهم أبناء إبليس لأنهم يريدون أن يقتلوه حيث لم يكن لهم إيمان إبراهيم ولا أعماله (الآيات 30 – 47). وكانت عبارة المسيح أن من يحفظ كلامه لن يرى الموت إلى الأبد بمثابة صدمة لليهود حيث اتهموا المسيح بأن به شيطانا. ذلك لأن إبراهيم والأنبياء قد ماتوا وكأن ذلك دليلا على كونهم لم يحفظوا كلام المسيح (الآيات 47 – 53). وهنا صدمهم المسيح بحقيقتين: أولا أن إبراهيم تهلل بأن يرى يوم المسيح فرأى وفرح، وثانيا أن المسيح كائن قبل أن يكون إبراهيم. ونتيجة تلك الحقيقتين رفع اليهود حجارة لكي يرجموا المسيح حتى الموت لأنه في نظرهم قد جدّف حيث جعل نفسه مساويا لله (الآيات 56 – 59).
إن الحقيقة الثانية بأن المسيح كائن قبل أن يكون إبراهيم تؤكد على أزلية المسيح وتفتح المجال لفهم الحقيقة الأولى. لذا يبقى السؤال: كيف رأى إبراهيم يوم المسيح؟ وما هو هذا اليوم؟ وما هو الحدث الذي تم في حياة إبراهيم والذي ربما كان في ذهن المسيح حين قال هذا؟
هناك رأي يقول إن المسيح قد أعلن لإبراهيم في السماء قبل أن يتجسد عن يومه. حيث أن إبراهيم كان في السماء مع المسيح قبل تجسد المسيح. لكن هذا الرأي هو مجرد تخمين افتراضي لا يستند على نص كتابي.
قال راباي اكيبا، وهو أحد أشهر معلمين اليهود، أن إبراهيم قد أُعلن له الدهر الآتي الخاص بأيام المسيا. وهذا قاد البعض إلى الاعتقاد بأن ما حدث في تكوين 22: 13 – 15 قد يكون ما كان ذهن المسيح حين قال بأن إبراهيم تهلل بأن يرى يومه. ففي تكوين 22 نجد قصة امتحان الله لإيمان إبراهيم حيث طلب الله منه أن يصعد إسحاق محرقة. وبسبب إيمان إبراهيم قد دبّر الله ذبيحة بديلة وقدمها إبراهيم عوضا عن إسحاق وبالتأكيد كان هذا سبب فرح وسرور وبهجة شديدة لإبراهيم. وقد تكون فعلا هذه القصة هي التي كانت في ذهن المسيح خاصة وأن استبدال إسحاق بذبيحة تُقدم عوضا عنه يُعد صورة مُصغّرة لعمل المسيح الكفاري والنيابي حيث أنه مات عوضا عن شعبه.
هناك نص كتابي مهم قد يساعدنا في تحديد ما أشار له المسيح. في رسالة العبرانيين إصحاح 11: 17 – 19 نقرأ “بِالإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ. قَدَّمَ الَّذِي قَبِلَ الْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ الَّذِي قِيلَ لَهُ: «إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ». إِذْ حَسِبَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى الإِقَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ أَيْضًا، الَّذِينَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ أَيْضًا فِي مِثَال.” وهنا نجد تفسير كاتب رسالة العبرانيين (بوحي من الروح القدس) لطاعة إبراهيم وهو أنه حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات. بحيث أن إبراهيم كان يؤمن أنه حتى لو قدّم إسحاق محرقة فإن الله قادرٌ أن يقيمه من الأموات لأنه ابن الموعد. والسؤال هنا: كيف كان لإبراهيم هذا الإيمان بالقيامة من الأموات؟ فالإيمان يُبنى على إعلان من الله. فكيف أُعلن لإبراهيم أنه يوجد قيامة من الأموات؟ خاصة وأنه إلى وقت إبراهيم في التاريخ البشري لم تحدث قيامة من الأموات لأحد. ولم يرى إبراهيم أي شخص عاد من الموت إلى الحياة. الإجابة على هذا السؤال تكمن في تكوين إصحاح 18.
في تكوين 18: 1 نقرأ أن الرب “يهوه” ظهر لإبراهيم ثم في الآية 2 رفع إبراهيم عينيه ونظر ثلاثة رجال. وقد يظن البعض أن الثلاثة رجال هم الآب والابن والروح القدس. ولكن هذا ليس ما حدث لأنه من الناحية اللاهوتيّة الآب لا يتجسد لأحد. كما أن إبراهيم حين ركض وسجد إلى الأرض قال “يا سيد” بصيغة المفرد في الآية 3. والكلمة في العبري هي “أدوناي” وتعني رب أو سيد. وعندما ضحكت سارة في باطنها، وهي في الخيمة حين سمعت أنه سيكون لها ابن، تكلم الرب “يهوه” مع إبراهيم وسأله لماذا ضحكت سارة (الآية 13). فالرب وحده هو الذي يعلم ما يدور في باطن الإنسان. ثم بعدها صلى إبراهيم من اجل سدوم ودار الحوار التشفّعي بين إبراهيم والرب في الآيات 16 – 33. وطوال هذا النص نجد التأكيد على أن المتحدث مع إبراهيم هو الرب “يهوه”. ويعلن لنا إصحاح 19 من سفر التكوين أن الرجلين الأخرين هما مجرد ملاكان. وهكذا فإن الرب “يهوه” ظهر لإبراهيم مع ملاكين، وبالرغم من أن إبراهيم رأى ثلاثة رجال إلا أنه أدرك أن واحدا منهم فقط هو الرب “يهوه” ولذا سجد له وناداه بالسيد “أدوناي”. والسؤال: من هو هذا الرب الذي تحدث مع إبراهيم؟ إنه ليس سوى المسيح كلمة الله الذي منذ البدء كان مع الله (يوحنا 1: 1 – 2). فالمسيح هو واحد مع الآب في الجوهر وهو دائما واسطة إعلان الله عن نفسه للإنسان خلال تاريخ الفداء. فالله لم يره أحد قط ولكن المسيح ابن الله الوحيد الكائن في حضن الآب هو يخبّر عنه (يوحنا 1: 18). ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يرى الله ويعيش (خروج 33: 20).
وحين انصرف الملاكين من عند إبراهيم وذهبوا نحو سدوم ظل إبراهيم قائما أمام الرب (تكوين 18: 22). ولا نعلم بالتحديد ما دار من حوار بينهم سوى ما أُعلن لنا في الآيات 23 – 33. ويمكننا أن نستنتج أن المسيح أعلن لإبراهيم حقائق إيمانية عن موته وقيامته من الأموات. وهذا يفسر لنا إيمان إبراهيم الذي ظهر جليّا بعدها في إصحاح 22 حين أمتحنه الله وهو ما يوافقه كلام كاتب رسالة العبرانيين بأن إبراهيم حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات. ولقاء المسيح الرب مع إبراهيم هو بلا شك مصدر فرح عظيم لإبراهيم. وقد يكون هذا اللقاء هو ما كان في ذهن المسيح حين قال إن إبراهيم تهلل بأن يرى يومه فرأى وفرح. فيوم المسيح هو يوم موته على الصليب وقيامته من بين الأموات.
من هنا نرى أن لقاء المسيح مع إبراهيم في تكوين 18، حيث أعلن المسيح عن موته وقيامته لإبراهيم، كان سبب رجاء عظيم لإبراهيم في أن الله قادر أن يقيم إسحاق من الأموات بعد أن يقدمه محرقة للرب. وما قاله المسيح لإبراهيم عن موته وقيامته من الأموات يُعد إعلانا ليوم المسيح الذي رآه إبراهيم وتهلل.
وليس غريبا أن يكون لمؤمني العهد القديم إعلانات خاصة لهم عن شخص المسيح وعمله الفدائي. فكاتب رسالة العبرانيين يقول أيضا عن موسى أنه بالإيمان “لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ” (عبرانيين 11: 24 – 26). فموسى كان مدركا لعار المسيح، وهو العار الناتج عن حمله لخطية شعبه، وموته ملعونا على الصليب. يقول بعدها كاتب الرسالة عن موسى “بِالإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ، لأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى” (عبرانيين 11: 27). وما المقصود بعبارة “كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى”؟ من هو “مَنْ لاَ يُرَى”؟ إنه الله. وكيف له أن يرى الله إن لم يكن ذلك في وجه المسيح صورة الله؟! اقرأ أيضا 2 كورنثوس 4: 4، 6، فيلبي 2: 6، كولوسي 1: 15، عبرانيين 1: 3.
إن كان إبراهيم قد أُعلن له ورأى يوم المسيح وتهلل قبل أن يأتي هذا اليوم، فكم بالحري نحن الذين قد رُسم أمام أعيننا يسوع المسيح مصلوبا ومقاما من الأموات في الكلمة المقدسة؟! لنفرح ولنتهلل لأن فصحنا المسيح قد ذُبح لأجلنا. ولنسلك بحسب الرجاء المبارك في قيامة الأموات والمجد العتيد أن يُستعلن لأبناء الله. لتكن حياتنا لمجد المسيح وسلوكنا يعكس نعمة الله في كل تواضع ومحبة بقوة الروح القدس. أمين.
د. ق. شريف جندي
هذه العبارة هامة جداً لفهم اعلان الكتاب المقدس
” وليس غريبا أن يكون لمؤمني العهد القديم إعلانات خاصة لهم عن شخص المسيح وعمله الفدائي”