ظل المسيح في سفر نشيد الأنشاد

 Image

ليس الهدف من هذه الدراسة تقديم تفسيرا لسفر نشيد الأنشاد أية بأية وإنما هي مجرد قراءة لاهوتيَّة للسفر ككل مع تقديم بعض المبادئ التفسيريَّة.

هناك عدة عوامل ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نحاول أن نفهم سفر نشيد الأنشاد وأي نص كتابيّ بشكلٍ عام:

1- لكي نستطيع أن نفهم سفر نشيد الأنشاد ينبغي أن نحدد أولاً القالب الأدبيّ الذي كُتب به السفر. فكل قالبٍ أدبيّ يتم تفسيره بطريقةٍ معينة. فالنصوص التاريخيَّة مثلا تختلف في فهمها عن النصوص النبويَّة أو الرسائل الرعويَّة أو الأمثال، وهكذا.

2- ينغي أن نفهم السفر في ضوء القرينة الكتابيَّة التي وُضع فيها السفر. فترتيب الأسفار ليس بصدفة أو بدون أهميَّة لاهوتيَّة وتفسيريَّة. فالله في عنايته وسيادته قد جعل للأسفار المقدّسة ترتيبا معيَّنا في القانونيَّة (القانونيَّة هو مصطلحٌ لاهوتيّ المقصود به الأسفار المعتمدة والقانونيَّة التي اوحي بها الله في كلمته المقدّسة، والقانونيَّة تشمل أيضا ترتيب تلك الأسفار وترابطها اللاهوتيّ). وبالتالي ينبغي أن تكون القانونيَّة هي أحد العوامل الرئيسيَّة في فهمنا للسفر ولمحتواه اللاهوتيّ. أي كيف يرتبط السفر لاهوتيّا بباقي الأسفار التي جاءت قبله وبعده وكيف يرتبط السفر بالفكر العام في كل أسفار الكتاب المقدّس؟ وهل هناك عبارات لُغويَّة أو مفردات اصطلاحيَّة لاهوتيَّة داخل السفر تجعل هناك روابط لاهوتيَّة بينه وبين أسفار أخرى في القانونيَّة؟

3- ينبغي أن نفهم السفر في ضوء خطة الله لخلاص البشر والفداء في المسيح والتي أعلن عنها الله بشكل تدريجي من بدايَّة الأسفار المقدّسة وحتى أخر سفر في القانونيَّة. يبدأ الإعلان عن خطة الله للفداء في سفر التكوين مع خلق الإنسان ثم سقوطه في الخطيَّة ثم عمل المسيح الكفاريّ المعلن عنه في العهد الجديد الذي تم التمهيد له في احداث وشخصيات العهد القديم ثم إتمام الكلي لهذا الفداء بمجيء المسيح ثانيا عندما يكتمل ملكوت الله على الأرض، ونجد الإعلان عن هذا الإتمام في أسفار قانونيَّة كثيرة منها مثلا سفر الرؤيا.

4- ينبغي أن ندرك جيدا أن المسيح هو مركز الأسفار القانونيَّة وأن النصوص المقدّسة تشير لشخصه وعمله سواء بشكل مباشر أو عن طريق تشبيهات وظلال ورموز. وبالتالي ففهمنا للأسفار المقدّسة ينبغي أن يكون فهما كرستولوجيَّا (كرستولجي يعني مسيانيَّا أو مسيحيَّا أي في إشارةٍ لشخص المسيح (من هو؟) وعمل المسيح (ماذا تمم ويتمم وسيتمم؟).

5- لا ينبغي أن نصرف وقتا طويلا لمحاولة فهم من هو كاتب السفر. فإذا أعلن السفر، أو شهد أحد أسفار القانونية، بوضوح عن كاتبه وأعطى بعض الإرشادات عن الخلفيَّة التاريخيَّة التي كُتب فيها فهذا أمر جيد ويجب استخدامه في التفسير. ولكن إن لم يعلن السفر عن كاتبه أو ظروف الكتابة أو المكتوب إليهم فلا داعي لصرف وقت وجهد في محاولات تخمينيَّة افتراضيَّة لمعرفة هذه الأمور. فالله في عنايته لم يعلن لنا عن كل هذه المعلومات وهو مدرك تماما أنها غير إلزاميَّة لفهم كلمته المقدّسة وإلا كان قد أعلنها لنا.

نأتي الأن لسفر نشيد الأنشاد وسنتبع المبادئ السابق ذكرها في فهمنا لهذا السفر:

أولًا القالب الأدبي:

يتضح لنا في الأصل العبري أن السفر قد كُتب في صورة شعر أدبيّ يسرد أحداثا تاريخيَّة وليس نثرا. يرى البعض أن السفر هو عبارة عن قصّة ادبيَّة لأحداث تاريخيَّة تحكي زواج الملك سليمان من عروسه شُولَمِّيث (نشيد الأنشاد 6: 13). ولكن المشكلة في هذا الرأي هو أن القراءة المباشرة للسفر لا توضح حبكة القصّة المزعومة. فلكل قصّة ادبيَّة عدة عوامل كشخصيات القصّة والحبكة الدراميَّة وذروة الأحداث (أي العقدة) ثم الحل، وهكذا. لكننا لا نرى كل هذه العوامل في السفر. كما أن القصة الأدبيَّة غالبا ما يتم سردها باسلوبٍ نثريّ وإن كان هذا لا يمنع أن يُستخدم الشعر في سرد القصّة الادبيَّة. كما أنه هناك مرات يصعب علينا فهم من هو المتحدث في أجزاء السفر المختلفة كما يصعب تحديد الحدث المراد شرحه. ومرات نجد تكرارا لبعض أجزاء من السفر. ولذلك فإن كان القالب الأدبيّ قصصي فإن هذه القصة غير متماسكة من الناحيَّة الأدبيَّة.

القالب الأدبيّ الأكثر وضوحا للسفر هو أن السفر عبارة عن قصائد حبّ مكتوبة بأسلوبٍ شعريّ. ولأن السفر مجموعة من القصائد الشعريَّة فهذا يفسر لنا عدم الترابط الأدبيّ بين تلك القصائد المختلفة. ولأنه قصائد عن الحب فهذا يفسر لنا وجود تلميحات جنسيَّة داخل السفر. ولكن كون السفر مجموعة من قصائد الحب لا يمنع أن يكون هناك معاني ثانويَّة تشير إلى المسيح والكنيسة كما سنرى فيما بعد.

وما يؤيد هذا الرأي هو وجود تشابه بين بعض الأبيات الشعريَّة في السفر وبعض قصائد الحب الشعريَّة المصريَّة القديمة.[1] يرجع زمن كتابة هذه القصائد المصريَّة إلى ما بين 2000 إلى 1000 قبل الميلاد تقريبا. أي قبل الزمن الذي عاش فيه الملك سليمان. ولأن الحضارة المصريَّة في تلك الحقبة كانت لها تأثيرا كبيرا على باقي الممالك المجاورة فلا نتعجب إن وجدنا تشابها بين بعض من هذه الأشعار وبعض الأبيات الشعريَّة في سفر نشيد الأنشاد. وهذا التشابه يؤكد لنا طبيعة السفر من ناحيَّة القالب الأدبيّ. فالسفر هو عبارة عن مجموعة من قصائد الحب مكتوبة بشكل شعريّ.

وهذه القصائد الشعريَّة في سفر نشيد الأنشاد تمنحنا فهما خاصة للعلاقة الجنسيَّة الممتلئة بالحب على إنها مكانا مباركا ومقدّسا للحضور الإلهي. فتقدم هذه الأشعار قاعدة للاهوت يتم من خلاله كمال العلاقة الجنسيَّة وفدائها.

ثانيًا سفر نشيد الأنشاد كأدب الحكمة بحسب قانونيَّة العهد القديم:

إن سفر نشيد الأنشاد وكلا من الأمثال والجامعة منسوبين للملك سليمان حيث أنه هو مصدر أدب الحكمة في إسرائيل. فكما أن موسى هو مصدر الشريعة وداود هو مصدر المزامير كذلك سليمان هو مصدر أدب الحكمة. إن دور سليمان الملك كأحكم رجل في إسرائيل تم الإعلان عنه بشكل اوضح في سفر الملوك الأول (1 ملوك 3؛ 4: 29؛ 5). إن نسب سفر نشيد الأنشاد لسليمان في قانونيَّة العهد القديم يضع هذا السفر في قرينة كتابات أدب الحكمة. وحيث أن حكمة سليمان مصدرها الله فبالتالي الحب الموصوف في السفر هو حب إلهي.

إن ترتيب أسفار العهد القديم كما هو موجود بين أيدينا باللغة العربيَّة وكذلك الترجمات الإنجليزيَّة مأخوذ عن الترجمة السبعينيَّة للعهد القديم.[2] وبحسب هذا الترتيب تم تقسيم العهد القديم إلى أربعة أجزاء: التوراة (أو ناموس موسى)، الأسفار التاريخيَّة، الأسفار الشعريَّة، ثم الأسفار النبويَّة. لكن في النص العبري المعتمد والمعروف بالنص المازوري يوجد ترتيب مختلف لأسفار العهد القديم. وبحسب الترتيب العبري هذا تم تقسيم العهد القديم إلى ثلاثة أجزاء: التوراة (أو ناموس موسى)، والأنبياء، والمزامير (ليس المقصود سفر المزامير فحسب وإنما سُمى هذا القسم بالمزامير لأن سفر المزامير هو أول أسفار هذا الجزء). وإننا نجد الرب يسوع يشير إلى العهد القديم بأجزائه الثلاثة مما يؤيد اعتماد الترتيب العبري وتفوقه على ترتيب الترجمة السبعينيَّة. ففي لوقا 24: 44 وبعد القيامة ظهر المسيح للتلاميذ وأخذ يشرح لهم كيف أن كل العهد القديم يشير إلى شخصه وإلى عمله. قال المسيح: “هَذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ.” وهنا يتضح لنا التقسيم الثلاثي للعهد القديم وذلك بحسب الترتيب العبري. وحيث أن نصوص العهد القديم باللغة العبريَّة هي الموحى بها وأن الترجمة السبعينيَّة هي في مجرد ترجمة لذلك وجب علينا أن نتّبع الترتيب العبري لأسفار العهد القديم لأن إشارة المسيح لهذا الترتيب جعل له أهميَّة وتميّز. والله في عنايته جعل من خلال قانونيَّة العهد القديم وترتيب أسفاره إطارا لاهوتيّا لفهم الأسفار المقدّسة ونصوصها. ولذلك فترتيب الأسفار هو في حد ذاته عامل أساسيّ ينبغي أن يوجه طريقة فهمنا لمحتوى الأسفار نفسها.

فمثلا بحسب الترتيب العبري للعهد القديم يأتي سفر الأمثال يليه سفر راعوث[3] ثم سفر نشيد الأنشاد. وفي سفر الأمثال نجد الحكمة مجسّدة في صورة امرأة (أمثال 8 – 9). ثم نجد وصفا للمرأة الفاضلة (أو الحكيمة) في أخر إصحاح في سفر الأمثال (أمثال 31). ثم يأتي سفر راعوث حيث نجد راعوث مثالا ونموذجا للمرأة الحكيمة الفاضلة التي وصفها الإصحاح الأخير في سفر الأمثال أي قبل سفر راعوث مباشرة.[4] وأخيرا نجد الاحتفال والتمتع بالمرأة الحكيمة في سفر نشيد الأنشاد. فقرينة ترتيب الأسفار القانونيَّة تعطي لنا إطارا لاهوتيّا نفهم من خلاله محتوى السفر والقصد منه.

يصوّر سفر نشيد الأنشاد وصول حاشيَّة الملك سليمان لحضور حفل زفافه. الحفل الذي امتد لمدة سبعة أيام. يُوصف الملك بالحب الذي يسعى وراء عروسه. وبالتالي فالسفر هو عبارة عن انعكاس الحكمة لطبيعة الحب المُبهجة والسريَّة بين الرجل والمرأة داخل إطار الزواج. والسفر أيضا هو عبارة عن احتفال بخليقة الله الصالحة مع التركيز على جانب الحب الإنسانيّ. الذي هو انعكاسا للحب الإلهي.

وهنا يجب أن نوضح عدة أمور خاصة بالمفهوم المسيحيّ الكتابيّ للحب الإنسانيّ والجنس في العلاقة الزوجيَّة:

1- خلق الله الإنسان على صورته. وفي قصة الخلق في تكوين 1 – 2 نجد أن الله كان يُقيّم كل شيء خلقه بعد إتمامه إذ يقول عنه أنه “حسن” (تكوين 1: 4، 10، 12، 18، 21، 25، 31). ولكن عندما خلق الله أدم كان تقيمه للأمر مختلفا إذ ولأول مرة في قصة الخلق يأتي تقييم الله للوضع على إنه “ليس جيدًا” (تكوين 2: 18). والكلمة “جيدًا” في اللغة العبريَّة هي نفس الكلمة “حسن” المستخدمة سابقا في تقييم الخليقة.

أي أن الله في حكمته لم يرى البشريَّة جيدة وحسنة إلا بخلق المرأة (قارن تكوين 1: 31 حيث يأتي تقييم الله العام لكل الخليقة بأن كل شيء قد عمله هو حسن جدا بعد أن خلق كل شيء بما فيه أدم وحواء). والسؤال لماذا؟ نجد الإجابة عن ذلك في تكوين 1: 28 حيث نجد التكليف الإلهي للإنسان بأن يثمر ويكثر ويملأ الأرض. وهو تكليف موجّه لأدم وحواء معا. أي على الإنسان أن يجعل من هذه الأرض ملكوتا لله بإنجاب ذرية تعبد الله وتمجده. ولكن كيف لأدم أن يتمم هذه المهمة لوحده. فهو يحتاج لامرأة كي تتم عمليَّة الإنجاب بشكل طبيعيّ. ولهذا نجد أن الله قد خلق في الإنسان الغريزة الجنسيَّة وباركها بل وتوقع منهم استخدامها لإتمام المهمة الإلهيَّة.  فالجنس هو جزء من خليقة الله الصالحة جدا. وهو أيضا عامل أساسي في إتمام الإرساليَّة التي كلّف بها الله الإنسان قبل السقوط. فالجنس ليس أحد نتائج السقوط كما يظن البعض. إن المفهوم المسيحيّ يرى أن الزواج مُكرّما والمضجع غير نجس (عبرانيين 13: 4). وبالتالي ينبغي فهم رسالة سفر نشيد الأنشاد في ضوء تكليف الله للإنسان والإرسالية التي كلفه بها واهتمام الله بالإنسان وبكل جوانب حياته بما فيه الحب والعلاقة الجنسيَّة التي خلقها الله فيه.

2- يعلمنا الكتاب المقدّس بكل وضوح أن الزواج في حد ذاته يشير إلى المسيح.  يقول بولس في أفسس 5: 32 “هذا السِّرُّ عَظيمٌ، وأعني بِه سِرَّ المَسيحِ والكنيسَةِ.” والسر هنا هو المقصود به تأسيس علاقة الزواج في تكوين 2. وبالتالي فعلاقة الزواج كما يرسمها لنا سفر نشيد الأنشاد تشير إلى عهد الحب الذي دخل فيه الله مع شعبه. وهناك نصوص مقدّسة أخرى من الأنبياء نجدهم فيها قد استخدموا الحب المتعلق بالزواج لكي يصفوا العلاقة بين الله واسرائيل (هوشع 1 – 2؛ إرميا 2: 2؛ 3: 1 – 3؛ إشعياء 50: 1؛ 54: 5؛ 62: 4؛ حزقيال 16؛ 23).

ثالثًا خطة الله للفداء وإعلانها بشكل تدريجي:

يساهم سفر نشيد الأنشاد في الإعلان عن خطة الله لفداء شعبه حيث يعلن الله عن هذه الخطة بشكل تدريجي عبر النصوص المقدّسة. إننا نجد بين أبيات سفر نشيد الأنشاد احتفالا بعودة الإنسان لجنَّة عدن. ففي الجنَّة كان أدم وحواء “عُريانَينِ، وهُما لا يَخجلانِ” (تكوين 2: 25). كان الإنسان حرا أن يأكل من ثمار الجنَّة وأن يحيا في تناغمٍ وتجانسٍ مع الحيوانات وأن يسير ويتحدث مع الله (تكوين 3: 8 – 9). ولكن بعد طرده من الجنَّة نتيجة الخطية وجد الإنسان نفسه في عالم الشقاء والتعاسة والحياة الصعبة المريرة. وسفر نشيد الأنشاد يقدّم لنا لمحة لعودة الإنسان لعدن. إنها عودة لحالة البراءة التي خُلق العالم لكي يكون عليها. إنها عودة إلى “العري وعدم الخجل”، عودة لبهجة الخليقة المطلقة والوجود في حضور الله (قارن نشيد الأنشاد 4: 12، 15 – 16؛ 5: 1؛ 6: 2). 

إن سفر نشيد الأنشاد يتحدث عن ملك اسرائيل الراعي، الذي هو من نسل داود، المقدم على إنه الشخص الإسرائيلي المثالي، مستمعا بعروسه المثاليَّة في جنَّة خصبة حيث تنعكس نتائج السقوط. فسفر نشيد الأنشاد مليء بصور مأخوذة عن الجنَّة تجسّد مشاهد متعددة من عدن. ومن المثير للاهتمام هو ما يمكن أم يكون ذروة تعبير السفر عن استعادة العلاقة الحميمة التي فقدت في تكوين 3 والتي يعبر عنها السفر بلغة لها أصداء بداية الاغتراب. فنهاية اللعنة على المرأة في تكوين 3: 16 تقول “إلى زَوجكِ يكونُ اَشتياقُكِ، وهوَ علَيكِ يسودُ.” وهذا ينعكس في نشيد الأنشاد 7: 10 حيث يقول “أنَا لِحَبِيبِي وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ.” والكلمة “اشتياق” الموجودة في تكوين 3: 16 هي نفس الكلمة المستخدمة في نشيد الأنشاد 7: 10. ففي اللعنة يكون اشتياق المرأة للرجل (أي أن تحاول أن تسود عليه وأن تكون هي الرأس) ولكن في نشيد الأنشاد الذي يمثل العودة لجنة عدن يكون اشتياق الرجل للمرأة (أي أن يقدم نفسه لأجلها).

ولذلك فعندما نتخذ تكوين 2 – 3 مفتاحا لفهم سفر نشيد الأنشاد نشترك في سيمفونيَّة الحب التي كانت للإنسان الأول. فقد خُلق الرجل والمرأة لكي يتبادلوا العواطف ويعيشوا في انسجام مع بعضهما البعض في الجنَّة، حيث تتحد الطبيعة والتاريخ كي يحتفلوا بالجسد الواحد الذي يتحقق بالعلاقة الجنسيَّة. فحبهم هو حقا “عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي” (تكوين 2: 23) وصورة الله هذه في الذكر والأنثى هي حقا حسنة جدا.

ولكن السفر لا يعود فقط بالإنسان إلى حالة البراءة في جنَّة عندن وإنما يقود الإنسان إلى حالة أفضل بكثير من عدن وهي حالة اكتمال ملكوت الله على الأرض. وهنا يشير السفر إلى الحب في معناه الكامل والمقدّس عندما يتحقق ملكوت الله في ملئه على الأرض كما هو في السماء. فالسفر يرجع بالإنسان إلى ما قبل السقوط ويتطلع بنا إلى اكتمال تحقيق الملكوت. وما بين الحالتين نجد خطة الله لفداء شعبه تتحقق من خلال شخص المسيح وعمله.

رابعًا المسيح في سفر نشيد الأنشاد:

يشير سفر نشيد الأنشاد إلى شخص المسيح وعمله. إن الحب والزواج هو الموضوع الأساسيّ لسفر نشيد الأنشاد. وكما رأينا أن النصوص المقدّسة تستخدم الزواج كصورة أو ظل لعلاقة الله مع شعبه. ولكن الشخصيَّة الجليَّة في السفر هو العريس، أي الملك سليمان نفسه. فسليمان من دون كل الشخصيات وكل الملوك هو شخصيَّة العريس في السفر. وبالرغم من أن سليمان كان حكيما جدا إلا أن حكمته هذه لم تجعله يتبع متطلبات العهد الموسوي بعدم الزواج من الأجنبيات (تثنية 7: 1 – 3). وهذا السلوك جلب عليه التأديب الإلهيّ. لكن هذا لا يقلل من دور سليمان الفعّال ومكانته في اللاهوت الكتابيّ. دوره هذا نجده في إطار العهد الداوديّ (أي عهد الله مع داود) في 2 صموئيل إصحاح 7. ففي 2 صموئيل 7 يعد الله داود بابن يكون وارثا ووسيطا لبركة الله لشعبه داخل العهد. وعد الله أن يقيم نسل داود كي يرث داود، حيث “يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ” (2 صموئيل 7: 12). بعد أن نضع نقاط فشله جانبا، نجد أن دور سليمان في مسرح اللاهوت الكتابيّ هو رمزا لشعب الله ووعد الله والخلاص في إطار العهد. فلأدم بعد خطيته، وعد الله أن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحيَّة (تكوين 3: 15). ولنوح، وهو سائر في غيبوبة السكر، تعهد الله أن من نسل سام، ابن نوح، سوف يأتي المخلص (تكوين 9: 26). ولداود، بعد أن سقط في خطيَّة الزنا مع بثشبع وقتل زوجها، وعد الله أنه سيقيم نسل داود كوسيلة لخلاص شعبه. في كل المرات، وبالرغم من حالات الفشل الشخصيَّة، كان هناك وعدا شخصيّا من الله، والتحقيق الفوريّ لهذا الوعد هو ظلا لتحقيقا أعظم وأكمل في المسيح.

لذا فسليمان، وهو النتيجة المباشرة لوعد الله العهديّ لداود والميثاق العهدي بين الله وكنيسته، كان مثالًا (أو ظلا) للمركز الجوهري للعهد: الرب يسوع المسيح، الذي هو ابن داود (متى 1: 1)، وهو أصل وذريَّة داود (رؤيا 22: 16). إن العهد الجديد يبدأ وينتهي بالمسيح على اعتباره ابن داود، متطابقا مع كونه الإتمام والتحقيق النهائيّ والأكمل لوعد الله العهديّ بإرسال المخلص.

وبالتالي فإننا نجد أن شخصيَّة سليمان نفسه (وليس مجرد فكرة الزواج) في سفر نشيد الأنشاد هو المفتاح التفسيري للسفر. لأنه هو ابن داود الذي وعد به الله وارثا للعهد. ولهذا فهو ظلا ومثالا لابن داود الأعظم، الرب يسوع المسيح، الذي زواجه من الكنيسة يعتبر عقيدة أساسيَّة في العهد الجديد كما إنها استعارة أساسيَّة أيضا في العهد الجديد. وبالتالي فتفسير سفر نشيد الأنشاد على إنه مثالًا وظلًا لشخص المسيح لا يعتمد على استخدام كتّاب الكتاب المقدس لاستعارة الزواج وإنما على المكانة التي احتلها سليمان في الإعلان الكتابيّ المتدرج. 

تشابهات بين العهد الداوديّ وسفر نشيد الأنشاد:

يمكن توضيح الفكرة السابقة عن أن شخصيَّة سليمان في سفر نشيد الأنشاد هي ظل للمسيح من خلال شرح التشابهات بين مصطلحات العهد مع داود وبين مصطلحات سفر نشيد الأنشاد نفسه.

أولًا صورة الزرع والغرس:

يقول الله في 2 صموئيل 7: 10 أنه سيزرع (يغرس) شعبه في أرضهم.[5] وهذه الفكرة منتشرة خلال العهد القديم. فمزمور 80: 7 يصف اسرائيل على أنها كرمة مأخوذة (مقتلعة) من مصر وتم إعادة غرسها في كنعان. ويستخدم كلا من إشعياء 58: 11 وإرميا 31: 12 صورة الزرع والغرس عن شعب الله. فالله هو حقا الغارس (قارن يوحنا 15: 1) وشعبه هو الغرس. وفكرة الغرس والزرع هي الفكرة الأساسيَّة في العهد مع داود.

هناك إشارات كثيرة في سفر نشيد الأنشاد للحدائق والجنات في إشارة إلى سليمان (نشيد الأنشاد 6: 2) وفي إشارة إلى عروسه (نشيد الأنشاد 4: 12؛ 8: 13). إن أوصاف اوراق النباتات الخصبة والزهور العطرة في سفر نشيد الأنشاد تستدعي صورة فردوس جنَّة عدن التي أعدّها الله لأدم في فجر التاريخ البشري. ولهذا فالجنَّة التي دمّرها الإنسان بخطيته قد قرر الله أن يعيد بناءها وغرسها بنعمته، وصورة الجنَّة هذه نجدها بشكل متكامل في العهد الداوديّ.

في ضوء كل هذا فإن الإشارات إلى بساتين الملك وكرومه، حيث تستمتع العروس بالمودّة والقرب في حضوره، لها معاني أعمق. فالعريس هو الشجرة المتميزة بين شجر الوعر (نشيد الأنشاد 2: 3) وفي داخل جنته يستمتع بثمار ليس فقط زرعه وإنما أيضا ثمار حب عروسه. ولهذا ففي سفر نشيد الأنشاد يوجد صدى للعمل الإلهي في العهد. الله هو الإله الزارع. والكنيسة هي عمل يديه. وجماعة العهد الخاصة به هي جماعة مثمرة (قارن هوشع 14: 8؛ غلاطية 5: 22 – 23). فبركات الصداقة الحميمة والحب يمكن التمتع بها فقط كنتيجة مباشرة لعهد النعمة.

ثانيًا يركّز العهد الداوديّ على نسل داود (2 صموئيل 7: 12):

لاحظ أن الشخص المستفيد من العهد لا يُذكر اسمه في 2 صموئيل 7، ولا يُشار اليه على إنه ابن داود وإنما نسل داود.[6] الوعد بتثبيت مملكته وكرسيه يتحقق جزئيّا في سليمان، الذي هو ابن داود، ولكنه يمتد إلى ما هو أبعد منه، إلى المستفيد النهائي للعهد، أي الرب يسوع المسيح الذي هو نسل داود. فهو أصل وذريَّة داود (رؤيا 22: 16). المسيح جاء منه داود وهو جاء من داود. فتعاليم العهد الجديد عن المسيح مرسخة في العهد الداوديّ. وسليمان بطل سفر نشيد الأنشاد هو الوارث الموعود به في العهد. بالتالي هو مثال وظل للمسيح. ولكن إتمام العهد بشأن نسل داود يتحقق أيضا في الزواج نفسه. فالزواج هو عبارة عن اتفاق يحفظ ويربط الحب بين طرفين. هو أيضا هبة منحها الله لتكاثر البشريَّة. والله لم يقصد فقط أن يكون الزواج إطارا لعلاقة الحب ولكنه قصد أيضا أن يكون نتيجة الزواج استمتاع جسديّ للعلاقة الجنسيَّة التي ينتج عنها ولادة الأطفال. فالاتحاد الأسريّ مبني على أساس عهد الزواج. وبدون سفر نشيد الأنشاد قد نظن من التاريخ الكتابيّ أن سليمان لم يكن لديه زواج كامل بحسب فكر الله. مع إن الله قد أدّب سليمان تحديدا لأنه اتخذ لنفسه زوجات اجنبيات، مرتكبًا الزنا في داخله وطارحًا كل حذر واستقامة في مهبّ الريح. ولكن عندما تكثر الخطيَّة تزداد النعمة جدًا (رومية 5: 20). فبالرغم من خيانة سليمان وزناه، إلا أن الله يكّرم التزامه للفضيلة والزواج بتذكيرنا في سفر نشيد الأنشاد بهذا الزواج الممتلئ من بركة الله. وليس هذا فقط ولكن السفر يتطلع بنا إلى الله حين يتمم شروط الوعد العهدي: سيكون هناك نسلا. فسليمان لن يكون عاجزا وعروسه لن تكون عاقرا. فصورة الغرس، وصورة النسل تنتقل في قرينة الزواج إلى أمر متوقع ومنتظر، حيث تتحقق بركة العهد بشكل نهائي في قدوم ابن داود الأعظم، الرب يسوع المسيح. فالمسيح هو النسل الموعود به، وبالرغم من فشل سليمان في طاعة ناموس الله، إلا أن النعمة تكثر للدرجة التي فيها يكون رابطة الزواج هي الوسيلة التي من خلالها يأتي النسل الموعود به، أي المخلص الموعود به.

ثالثًا يركّز العهد الداوديّ على تثبيت واستمرار العرش الملكيّ:

يؤكد العهد الداوديّ على أن المملكة وكرسي المملكة سوف يثبتون (2 صموئيل 12 – 13). حيث يتعهد الله أن يضمن استمرار نسل داود ككرسيّ شرعيّ للسلطة وكمكان يُعرف على إنه مكان للبركة. والعلاقة قريبة جدا بين العرش الذي جلس عليه داود وبين الحكم الملكيّ الذي يمارسه الرب على شعبه حيث يقول سفر أخبار الأيام الأول “وَجَلَسَ سُلَيْمَانُ عَلَى كُرْسِيِّ الرَّبِّ مَلِكاً مَكَانَ دَاوُدَ أَبِيهِ” (1 أخبار الأيام 29: 23). فالكرسيّ الذي اعتلاه سليمان هو كرسيّ الرب. وبالتالي فالعرش الذي جلس عليه نسل داود ليس أقل من كونه عرش الله نفسه. ونفس الفكرة نجدها بوضوح في أخبار الأيام الثاني حيث يشار إلى مملكة الرب على إنها في يد بني داود (2 أخبار الأيام 13: 8).

يعرض سفر نشيد الأنشاد صفات وصور ملكيَّة في كثير من المواقع. فأورشليم وهي مدينة داود ذُكرت أكثر من مرة (1: 5؛ 2: 7؛ 3: 5، 10؛ 5: 8، 16؛ 6: 4؛ 8: 4)، وكذلك أيضا القصر الملكيّ (1: 4؛ 2: 4). وأوضح إشارة إلى مكانة سليمان الملكيَّة هي في 3: 9-11، حيث موكب تتويج سليمان، والإشارة إلى موضوع الزواج والتتويج. فسفر نشيد الأنشاد يركز على الفكرتين معا: مكانة الملك وزواجه. وهكذا يُنسج السفر من خلال مجموعة من التشبيهات والاستعارات التي ترسم لنا شخصيَّة سليمان ووظيفته تحت سيادة الله. وبالرغم من خطاياه الشخصيَّة وضعفاته، والتي هي كثيرة، إلا أنه كان يمتلك وظيفة رسميَّة كملك على شعب الله. وهذه الوظيفة تحديدا أتمت شروط العهد الذي صنعه الله مع أبيه. والتاج الذي كان على رأس سليمان كان رمزا قويا لأمانة إله سليمان. ولذلك أصبح صورة ومثال للتاج الذي وُضع يوما ما على رأس يسوع المسيح. فسفر نشيد الأنشاد يحتفل ليس فقط بالعريس الملكيّ والعروس الملكيَّة، وإنما يذكّرنا أيضا أن العريس ليس مجرد زوجا عاديا ولكنه شخصا قد ختم عليه الله، أي أنه ملكا لله. ومن المهم أن نتذكّر التميز، والتلازم، بين الإشارات إلى شخصيَّة سليمان وبين وظيفته طوال السفر.

رابعًا يركّز العهد الداوديّ على البنوّة الإلهيَّة للوارث الموعود به والمستفيد من العهد:

أعلن الرب وبشكل جليّ عن ابن داود “أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً.” (2 صم 7: 14؛ تكرر في مز 89: 26 – 27). فالعهد له وظيفة تبنيّ فيما يختص بابن داود، من خلال فضل اختيار الله له، كان عليه أن يدخل في علاقة فريدة مع الله. هذه العلاقة الفريدة نجد ظلا لها في قصة ميلاد سليمان. فعندما ولدته بثشبع يقول الكتاب المقدّس أن “الرَّبُّ أَحَبَّهُ” (2 صموئيل 12: 24). وهذا الحب ظهر في الاسم الذي كثيرا ما ننساه وكان الرب قد أطلقه على سليمان: يديديا، ومعناه “محبوب الرب” (2 صموئيل 12: 25). في مزمور 89: 27 جعل الرب داود بكرا بالرغم من أن داود لم يكن فعليّا أول ملك على إسرائيل ولم يكن أول ابنا مولودا لوالديه. إن اختيار داود نجد صدى له في المكانة والعلاقة مع الله التي احتلها سليمان. فمن دون كل عائلة داود اختار الله سليمان كابن له. لذا فإنه في غايَّة الأهميَّة أن أعظم قصيدة حب في العهد القديم كانت قصيدة سليمان، وليس أحدا أخرا. وإن كان إسهام سفر نشيد الأنشاد للقانونيَّة يقتصر على مجرد الاحتفال بالحب الإنساني في أقصى درجات نقائه، فكان من الممكن أو المفترض جدلا أن تظهر في السفر أي شخصيَّة أخرى. ولكن في الواقع الشخصيَّة الرئيسيَّة في السفر هو سليمان، حيث دُعي تحديدا ليس مجرد محبوب شولميث ولكن محبوب الرب، وليس مجرد ابن داود العظيم ولكن ابن الله القدير. فكلما ذُكر سليمان في السفر تأتي الإشارة للعهد. فهو النسل الملكيّ الموعود به والذي جعله الله خاصته. فسفر نشيد الأنشاد، وإن كان لا يشير تحديدا إلى أجداد العريس الملكيّ، مع ذلك يستدعي المكانة المتميّزة التي احتلها العريس في تجلي إعلان الله. فهو ليس عريس عادي وليس ملك عادي.  

خامسًا يركّز العهد الداوديّ على رحمة الله ومحبته الغير قابلة للتغير: 

يذكر 2 صموئيل 7: 15 بكل وضوح الوعد أن رحمة الله (والكلمة العبريَّة المترجمة رحمة تشير إلى رحمته ومحبته وأمانته في إطار العهد) لن تنزع من نسل داود. وقد جاءت كلمة الحياة إلى كنيسة العهد القديم في الإعلان عن رحمة وأمانة الله. وهذا الوعد هو ما جعل داود يتوقع أمورا أعظم. فهو علم أن الله تكلم “إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ” (2 صموئيل 7: 19). ولهذا فقد علم داود أن الله من خلال العهد قد أحب شعبه لذلك يمكنه أن يتنبأ أن الملك الأعظم سوف يأتي من صلبه. وبالرغم من بعض الأفعال الفرديَّة التي قام بها نسل داود (بما فيه سليمان) والتي هي بمثابة عصيان لله وفقدانهم لبركات العهد، فهذا لا يؤثر على حتميَّة القسم الإلهيّ. حيث يؤكّد الله بشدة على إخلاص واستمراريَّة عهده مع داود بالرغم من ظهور بعض الشخصيات في نسل داود التي بدت وكأنها غير جديرة بالعهد. وفي عرضه للأخبار السارة يدعو النبي إشعياء الجميع إلى عهد أبديّ (إشعياء 55: 1-3)، أي مراحم داود الصادقة. فالعهد في أساسه هو دعوة للجميع كي يقبلوا الأخبار السارة.

وبالرغم من أن الكلمة العبريَّة المترجمة رحمة غير موجودة في سفر نشيد الأنشاد إلى أن الفكرة البارزة في السفر هي الحب الذي هو أقوى من الموت (نشيد الأنشاد 8: 6). فالحب هو ذلك الشيء الذي لا يستطيع الموت أن يدمّره. وإن كان على المستوى الإنسانيّ ينتصر الموت، حتى في أصدق أشكال الحب بين الحبيبين يفصل الموت بينهما. ولكن الحب الذي يحتفل به سفر نشيد هو شيء ثابت، شيء أبديّ. فالحب لا تغمره المياه الكثيرة (نشيد الأنشاد 8: 7). ومن الملفت للنظر أن إشعياء وفي القرنيَّة التي ذكرناها سابقا يتحدث عن الطوفان (إشعياء 54: 8 – 9)، وهو إشارة إلى العهد النوحويّ وحتميَّة نعمة الله الثابتة إلى الأبد. فرحمة العهد هي الفكرة المسيطرة على هذا النص “بِإِحْسَانٍ أَبَدِيٍّ أَرْحَمُكِ” (إشعياء 54: 8). يربط إرميا بين فكرة الحب وبين فكرة الرحمة الأبديَّة في إرميا 31: 3 حيث يقول الله لشعبه “مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ”.[7] والربط بين فكرة الحب وفكرة أمانة ورحمة العهد هو بمثابة تكامل في العرض النبويّ عن الرب الذي هو عروس الكنيسة. فالحب هو ذلك الشيء الذي لا تستطيع أن تقتنيه ثروة بيت الإنسان (نشيد الأنشاد 8: 7). وفي ضوء التفاعل داخل العهد الداوديّ بين رغبة داود أن يبني بيتا لله وبين عزم الله على أن يبني بيتا (أي مملكة) لداود، نجد أن هذه العلاقة مهمة. فالدرس الذي تعلّمه داود هو أنه امتياز أعظم أن تكون موضوع بناء الله عن أن تكون باني بيتا لله. فحكمة الأخبار السارة تتمركز ليس حول ما نستطيع أن نعمله نحن من أجل الله ولكن ما يستطيع أن يعمله الله من أجلنا. وبالمثل فنفس فكرة محبة الله العهديَّة وأمانته للعهد، كونهم شيئان متكاملان لإعلان عهد نعمته مع داود، أصبح هذا أيضا الموضوع الغالب في سفر نشيد الأنشاد. فسفر نشيد الأنشاد هو حقا نشيد ابن داود. 

الخاتمة:

إن التفسير المجازي الشائع لسفر نشيد الأنشاد لا يهتم بالخلفيَّة التاريخيَّة للسفر ولا بشخصيات السفر كشخصيات لها دور في تاريخ الإعلان الإلهي لخطة الفداء. وأيضا التفسير الحرفي الذي يرى السفر على أنه مجرد أشعار للحب بين سليمان وزوجته أيضا لا يفي الغرض من السفر حيث أنه جزء من قانونيَّة الأسفار المقدّسة والتي تشير بشكل شامل ومحدد لشخص وعمل المسيح وتعلن بشكل تدريجي عن خطة الله لفداء شعبه.

وبالتالي فيجب فهم سفر نشيد الأنشاد في ضوء عمل الله وإعلانه عن الفداء وتحديدا في ضوء عهد النعمة الذي أقامه مع داود. وكما رأينا فإن السفر يحمل في داخله صورا وإشارات واستعارات ودلالات لاهوتيَّة تشير إلى ربطه بالعهد الداوديّ وتمثل لنا الدليل الذي من خلاله نفهم السفر. وبهذا المعنى فالسفر يحتفل حقًا بالحب الإنساني وليس أقل من ذلك ولكنه في ذات الوقت يحمل معاني أكثر من ذلك بكثير جدًا.

في العهد القديم كان اليهود هم الشعب المتميّز الذي عليه أن يرحّب بالأمم في هيكل الله ويحملون رسالة التوبة لهم. وفي سفر نشيد الأنشاد لا يوجد امتياز لهم. فكل النساء تتنافس على حب سليمان ولكن الأميرة شُولَمِّيث تستولي على حبه بجمالها ووجدانها ومثابرتها. والتطبيق لهذا الموقف هو أن اليهود والأمم متساوون في نظر الله. حيث أن شُولَمِّيث كانت من الأمم وليست من اليهود. فبالرغم من كونها غريبة عن العهد وجماعة العهد إلا أنها بفضل زواجها من سليمان قد اندمجت في هذه الجماعة. فزواجها من ابن داود أدى إلى جعلها وريثة لله، ووارثة مع سليمان لبركات العهد، كعضوة كاملة في جماعة العهد، وكأنها لم تكن أي شيء خلاف ذلك من قبل. ويعتبر هذا هو جوهر رسالة الإنجيل، أننا أصبحنا “وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ” (رومية 8: 17). هذا هو قلب العهد. تجمع رسالة أفسس هذه الأفكار معا. فهؤلاء الذين كان بالطبيعة “بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ” (أفسس 2: 12) قد أصبحوا قريبين بدم المسيح، قريبين جدا، للدرجة التي فيها أصبحت الكنيسة هي عروسه (أف 5: 32).

وبالرغم من إننا يجب أن نتجنب التفسير المجازي والرمزي الذي يتجاهل الأحداث والشخصيات التاريخيَّة في السفر إلا أنه من الواضح جدا أن العهد الداوديّ يفتح لنا بابا لتفسير سفر نشيد الأنشاد. ففي ضوء الإعلان عن العهد في تاريخ الفداء يمكننا أن نقول إن احتفال سفر نشيد الأنشاد بالحب الإنسانيّ يشكّل الفرصة الملائمة لموضوعه الأكبر، حيث يجب أن نرى أبعد من هذا، لأن أعظم من سليمان ههنا.

فالسفر يتغنى بابن داود،[8] الذي هو ملك،[9] بمصطلحات مثاليَّة.[10] فعلى الرغم من الغربة التي يجب التغلب عليها، يتمتع هذا الملك، الذي هو نسل المرأة، ونسل ابراهيم، ونسل يهوذا، ونسل داود، بعلاقة حميمة تخلو من الخجل مع حبيبته،[11] في جنته التي هي ملكه.[12] وهذه كلها تعتبر صورا وظلالا مسيانيَّة تشير إلى شخص وعمل المسيح.

فمن خلال أشعار سفر نشيد الأنشاد تبصر البقيَّة التقيَّة في إسرائيل لمحة عن ذلك الشخص الذي سيأتي ليعيدهم إلى جنَّة عدن. ففي الخراب والدمار الذي اختبره الشعب خارج جنَّة عدن، وعلى الرغم من أن قلوب بعض ملوكهم قد انحرفت بعيدا عن طرق الرب من خلال النساء الأجنبيات، يتغنّى السفر بجمال الملك الذي سوف يجمعهم معا مرة أخرى. ومن المناسب أن يكون سفر نشيد الأنشاد شعرا حين أن الشعر هو مرآة تجعل ما قد تشوه جميلا.

 بعض المراجع المستخدمة:

Iain D. Campbell “The Song of David’s Son: Interpreting the Song of Solomon in the Light of the Davidic Covenant.” Westminster Theological Journal 62, no. 1 (March 1, 2000): 17-32.

Hamilton, James M, Jr. “The Messianic Music of the Song of Songs: A Non-Allegorical Interpretation.” Westminster Theological Journal 68, no. 2 (September 1, 2006): 331-345.   

[1] للاطلاع على بعض النماذج لقصائد الحب الشعريَّة المصريَّة القديمة يمكن الرجوع إلى المواقع الأتية:

http://www.love-poetry-of-the-world.com/Egyptian-Love-Poetry-Poem1.html

http://www.humanistictexts.org/egyptlov.htm

http://www.fordham.edu/halsall/ancient/2000egypt-love.html

[2] الترجمة السبعينيَّة هي ترجمة للعهد القديم تمت ما بين القرن الثاني والقرن الأول قبل الميلاد. وقد تم ترجمة كل العهد القديم من اللغة العبريَّة إلى اللغة اليونانيَّة في مدينة الإسكندريَّة بمصر. وذلك لأن اللغة اليونانيَّة كانت سائدة في ذلك الوقت بين اليهود. وسرعان ما اصبحت هذه الترجمة معتمدة ومنتشرة حتى إن هناك اقتباسات كثيرة في العهد الجديد سواء للمسيح أو الرسل من تلك الترجمة.

[3] ينبغي أن ننظر لسفر راعوث على أنه أحد أسفار الحكمة (مع سفر الأمثال والجامعة) وذلك بحسب الترتيب العبري للأسفار وليس سفرا تاريخيّا بحسب ترتيب الترجمة السبعينيَّة.

[4] لاحظ أن تعبير “اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ” في اللغة العبريَّة المذكور في أمثال 31: 10 هو نفسه مستخدم لراعوث في راعوث 3: 11 حيث لُقبت بامرأة فاضلة.

[5] الكلمة العبريَّة “غرس” المستخدمة في 2 صموئيل 7: 10 هي نفسها الكلمة العبريَّة المستخدمة في تك 2: 8.

[6] الكلمة العبريَّة المترجمة “ابن” تختلف عن الكلمة العبريَّة المترجمة “نسل”.

[7] الكلمة المترجمة “أحببتك” هي نفس الكلمة العبريَّة المترجمة حب في سفر نشيد الأنشاد. والكلمة المترجمة “الرحمة” هي نفس الكلمة العبريَّة المترجمة رحمة في العهد الداوديّ في 2 صموئيل 7: 15.

[8] نشيد الأنشاد 1: 1، 5؛ 3: 9، 11؛ 8: 11، 12.

[9] نشيد الأنشاد 1: 4، 12؛ 3: 9، 11؛ 7: 5.

[10] نشيد الأنشاد 3: 6-11؛ 5: 10-16.

[11] نشيد الأنشاد 2: 16-17؛ 4: 16ب-5: 1؛ 6: 2-3؛ 7: 11-13؛ 8: 3، 13-14.

[12] نشيد الأنشاد 6: 2.

د. ق. شريف جندي

 

Image

Advertisement

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s