النقطة الثانية في النقاط الخمسة الكلفينية هي الاختيار غير المشروط، ولكي نفهم هذه العقيدة ينبغي أن ندرك أربعة أشياء:
1- معنى الاختيار:
تعلمنا من النقطة الأولى “الفساد الشامل للإنسان” أن الإنسان غير قادر على اختيار الصلاح أو قبول الخلاص لأن إرادته مقيدة بالخطية. وبالتالي هو لا يريد ولا يستطيع أن يقبل الخلاص ما لم يقم الله بعمل تغيير في داخله أولاً. وكي يتم هذا التغيير ينبغي على الله أن يختار من يتمم هذا التغيير فيهم.
فعقيدة الاختيار غير المشروط تنص على أن الله اختار أولئك الذين قرر أن يأتي بهم لمعرفة نفسه، بحسب مسرة مشيئته، وليس على أساس الجدارة أو الاستحقاق التي أبداها أي إنسان قد نال نعمة معرفته، وليس استنادًا إلى معرفة الله المسبقة والتي من خلالها رأي من “سيقبل” الخلاص. بل قد أختار الله، استنادًا فقط على مشورة إرادته الخاصة، البعض للمجد والآخرين للهلاك “إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ”، “أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ عَلَى الطِّينِ، أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟” (رومية 9: 15، 21). وقد تم هذا الاختيار قبل تأسيس العالم “إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ، 6لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ” (أفسس 1: 4-8).
هذ العقيدة لا تستبعد، مع ذلك، مسؤولية الإنسان أن يؤمن بالعمل الفادئي لابن الله (يوحنا 3: 16-18). فالكتاب المقدس يقدم لنا هذا الصراع بين سيادة الله في الخلاص، ومسؤولية الإنسان الذي يؤمن. ولا يقدم لنا الكتاب المقدس حلاً لهذا الصراع. فكلاهما أمر صحيح – ومن ينفي مسؤولية الإنسان قد وقع في فخ الكلفينية المفرطة (Hyper-Calvinism) غير الكتابية؛ ومن ينكر سيادة الله قد وقع في فخ الأرمينية غير الكتابية.
والمختارون هم خلصوا كي يعملوا اعمالا صالحة “لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا.” (أفسس 2: 10). وهكذا، على الرغم من الأعمال الصالحة لن تعبر الهوة بين الإنسان والله التي تشكلت في السقوط، إلا أن الأعمال الصالحة هي نتيجة لنعمة الله المخلصة. هذا ما يقصده بطرس عندما شجع قرّائه المسيحيين أن يجعلوا “دعوتهم” و”اختيارهم” ثابتين (2 بطرس 1: 10). إن ثمار الأعمال الصالحة هي إشارة على أن الله قد زرع بذور النعمة في التربة الخصبة.
2- معنى “غير المشروط”:
عبارة “غير مشروط” تعني ببساطة إن اختيار الله للمعينين للخلاص لم يكن مشروطًا بعمل ما رآه الله فيهم أو استحقاقا لديهم. بمعنى إنه ليس بناءً على علم الله السابق والذي من خلاله رأي من “سيقبل” الخلاص وقد اختارهم. فالاختيار هنا يصبح اختيارًا مشروطًا بقبول الإنسان للخلاص وبالتالي مشروطًا باستحقاق الإنسان. ولأننا أدركنا من النقطة الأولى “الفساد الشامل للإنسان” أن الإنسان غير قادر على اختيار الله وعلى قبول الخلاص من ذاته.
3- هل الاختيار مزدوج؟
نعم، فالكتاب المقدس يعلمنا أنه كما أختار الله البعض للخلاص، قد عين أيضا الباقين للمصير المحتوم لهم وهو الموت كأجرة للخطية. وهناك نماذج كتابية كثيرة عن أشخاصا قال الله عنهم أنهم معينين “أي مختارين” للهلاك مثل: فرعون حيث قال عنه الكتاب “إِنِّي لِهذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُنَادَى بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ” رومية 9: 17، وهذا اقتباس من خروج 9: 16 “وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُرِيَكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُخْبَرَ بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ.” فالله قد أقام “أي عين أو اختار” فرعون ليريه قوته ويعلن له مجده لا لكي يؤمن لأننا ندرك أن فرعون لم يؤمن بالله ومات غرقا في البحر ولكن كي يعلن الله مجده وقدرته للعالم كله من خلال “هلاك” فرعون. نعم قد تمجد الله بهلاك فرعون وجيشه ومركباته “فَأَتَمَجَّدُ بِفِرْعَوْنَ وَكُلِّ جَيْشِهِ، بِمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ.” خر 14: 17. أيضا يهوذا الأسخريوطي قاله عنه المسيح نفسه أنه ابن الهلاك في يوحنا 17: 12. ومعنى عبارة ابن الهلاك أي المعين للهلاك. كذلك قال الله عن يعقوب وعيسو “أحببت يعقوب وأبغضت عيسو” (رومية 9: 13، ملاخي 1: 2-3) وهنا نرى بوضوح أن الله أحب “أي اختار للخلاص” يعقوب وأبغض “أي أختار للهلاك” عيسو. كذلك يقول الكتاب بوضوح أن الله “يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ” (رومية 9: 22). وكلمة مهيأة تعني معدة أو مختارة.
4- هل نال الغير معينين أو مختارين للخلاص ظلما؟
بالطبع لا، لأن الله عادل وليس فيه ظلمًا البتة. كما أوضحنا من شرح عقيدة الفساد الشامل للإنسان أن أجرة الخطية موت، وبما إن كل الجنس البشري قد سقط بخطية أدم وقد أحتسبت له خطية أدم وذنب أدم وبالتالي يستحقون جميعا عقاب الخطية وهو الموت. لكن رحمة الله قد قررت أن تمنح البعض خلاصا من هذا المصير الأبدي، أي الموت في جهنم. والبعض الأخر سيأخذ ما يستحقه من عقوبة للخطية وهو الموت في الهلاك الأبدي. وبالتالي لم يظلم أحد. البعض رُحم والبعض الأخر نال ما يستحقه. والسؤال الذي يأتي في أذهاننا الأن هو: لماذا اذا لم يعطي الله الرحمة للجميع؟ والإجابة هي أن الله غير ملزم يعطي الرحمة أو أن يتعامل بالرحمة مع الجميع، لكنه ملتزم بأن يتعامل بالعدل مع الجميع. والرحمة في تعريفها هي نعمة مقدمة للبعض وليس للكل وإلا لن تكن رحمة. الذين نالوا الرحمة لم ينالوا العدل الذي يستحقونه بل نالوا النعمة التي لم يستحقوها. والباقي نال ما استحقه وهو العدل.
“فَسَتَقُولُ لِي: «لِمَاذَا يَلُومُ بَعْدُ؟ لأَنْ مَنْ يُقَاوِمُ مَشِيئَتَهُ؟» بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: «لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هكَذَا؟» أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ عَلَى الطِّينِ، أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟ فَمَاذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ. وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجْدِ” (رومية 9: 19 – 23).
د. ق. شريف جندي