ولكي نفهم هذه النقطة ينبغي أن نسترجع النقاط السابقة لأن هذه النقطة مبنية عليها.
لقد اتفقنا أن الإنسان فاسد بشكل كامل وشامل وذلك بسبب سقوط أدم الأول في الخطية واحتساب هذه الخطية لكل الجنس البشري وما ترتب على ذلك من وجود الخطية الأصلية التي يُولد بها كل إنسان. ولهذا فكل إنسان مخلوق بحكم الموت كأجرة الخطية واقع عليه شرعا. وهو عاجز تماما عن خلاص نفسه أو أخذ زمام المبادرة للمصالحة مع الله أو حتى طلب الفداء أو عمل الصلاح الذي يريده الله. ذلك لأن اردته مقيدة بالخطية ولا يستطيع أن يتقدم إلى الله أو يختار الله. فهو ميت بالذنوب والخطايا.
وهذا ما يقودنا للنقطة الثانية وهي الاختيار غير المشروط، وفيها اتفقنا أنه بما إن الإنسان الفاسد لا يستطيع أن يختار الله فالبديل هو أن الله نفسه قد قام باختيار البعض للخلاص والبعض الأخر للهلاك. وهذا الاختيار تم قبل تأسيس العالم. والمعينون للحياة الأبدية في المسيح يعمل الله فيهم بشكل إيجابي حيث يقوم بروحه القدوس بتجديدهم حتى يصبحوا قادرين على الإيمان والثقة في عمل المسيح الكفاري. أما بالنسبة للمعينين للجحيم الأبدي فلا حاجة لله لعمل أي شيء بشكل إيجابي معهم لأنهم بالفعل معينون للهلاك استحقاقا لاحتساب خطية أدم لهم ولما وُلدوا به من خطية أصلية واستحقاقا لخطاياهم الفعلية التي تنبع من الطبيعة الفاسدة فيهم.
وهذا يقودنا للنقطة الثالثة وهي الكفارة المحدودة. ولكي نفهم هذه النقطة ينبغي أن ندرك أولًا معنى كلمة كفارة. كلمة كفارة تعني تحديدًا المصالحة التي تممها المسيح على الصليب بموته النيابي عن شعبه صانعًا فداءً لهم عن خطاياهم. والسؤال الذي يطرح نفسه الأن هو: هل صنع المسيح هذه الكفارة على الصليب من أجل كل البشر جميعا بلا استثناء أم لأجل المعينين للخلاص فقط؟ لو افترضنا أن المسيح قد مات لأجل كل البشر بلا استثناء فسيصبح الله ظالمًا. ذلك لأنه سيكون قد أخذ أجرة الخطية (وهي الموت) مرتين من بعض البشر (أي المعينين للهلاك). لأنه إن سلمنا أن المسيح مات عن كل البشر ودفع اجرة الخطية عن الكل بما فيهم المعينين للهلاك، ثم في يوم الدينونة سيرسل الله المعينين للهلاك للجحيم كي يدفعوا أجرة خطيتهم. في هذه الحالة سيكون الله قد أخذ أجرة الخطية منهم مرتين (مرة بموت المسيح عنهم ومرة بموتهم الأبدي في الجحيم). كما أن هذا الاعتقاد يقلل من شأن وقيمة كفارة المسيح لأنه يجعلها غير كافية كتكفيرًا للخطية لذلك وجب على المعينين للهلاك أن يمضوا للجحيم كي يدفعوا ما لم تتممه كفارة المسيح عنهم في الصليب. وفي هذا إهانة شديدة للمسيح ولكفارة المسيح. ومن يؤمن بأن المسيح مات لأجل كل البشر اعتقادًا منهم أنه بذلك لا يجعلها محدودة هو في الواقع يجعلها محدودة جدا في تأثيرها وفاعليتها لأنها ستصبح حينئذ غير كافية للتكفير عن المعينين للهلاك لذلك سيمضوا في النهاية للجحيم.
لذلك فالبديل المنطقي والذي يقدمه الكتاب المقدس هو الكفارة المحدودة. وكلمة محدودة لا يُقصد بها الفاعلية أو القوة لكن الهدف. بمعنى أن هدف التكفير هو محدود فقط لخلاص وفداء المعينين للأبدية في المسيح. وهناك شواهد كتابية كثيرة توضح أن المسيح مات من اجل شعبه فقط (أي المعينين للخلاص) وليس من أجل كل البشر. مثلًا “لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا.” مت 26: 28. لم يقل المسيح “من أجل الكل” لكن “من أجل كثيرين” وكلمة كثيرين لا تعني الكل بلا استثناء لكن تعني عدد معين دون الكل. ونفس الفكرة نجدها في إشعياء 53: 12 حيث يقول النبي عن موت وصلب المسيح “وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ.” “أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ.” “كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ.” يوحنا 10: 11، 15. وهنا المسيح يقول عن نفسه أنه يبذل نفسه عن “الخراف” وليس عن الخراف والجداء. أي عن المعينين للخلاص وليس عن كل البشر. ومتى 25: 32 – 33 توضح الفرق بين الخراف والجداء “وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ.” ونجد المسيح في صلاته الشفاعية يطلب من اجل المختارين المعينين للخلاص وليس من أجل كل البشر “مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ.” يوحنا 17: 9. “اِحْتَرِزُوا اِذًا لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ.” أعمال 20: 28 وهنا يقول بولس بوضوح أن الله قد اشترى أو اقتنى (بموت ابنه على الصليب) الكنيسة بدمه وليس كل البشر. ونفس الفكرة يشدد عليها بولس بقوله “أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ.” أفسس 5: 25 – 27. فالمسيح مات لأجل شعبه لأنه يحب خاصته (وليس كل البشر) الذين في العالم “إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى.” يوحنا 13: 1.
وختامًا أضع امامكم الاحتمالات الأربعة للرد على سؤال عمن مات المسيح وقدم كفارة في الصليب.
1- مات المسيح عن كل خطايا كل البشر.
2- مات المسيح عن كل خطايا بعض البشر.
3- مات المسيح عن بعض خطايا كل البشر.
4- مات المسيح عن بعض خطايا بعض البشر.
أعتقد أن كل المسيحين يستبعدون الاحتمالين الثالث والرابع. وأغلب المسيحين يؤمنون بالاحتمال الأول. ولو افترضنا جدلًا الاحتمال الأول وهو أن المسيح مات لأجل كل خطايا كل البشر. فالنتيجة المنطقية هي أن كل البشر قد دفع المسيح عنهم ثمن خطاياهم وهو الموت ولذلك فهم أبرارًا في نظر الله ويستحقون الحياة الأبدية في المسيح. ولكننا نعلم أن هذا ليس هو الحال لأنه يسكون هناك بشر خطاة في الجحيم يدفعون ثمن خطاياهم في الأبدية في الهلاك. والبعض يقول إنهم في الجحيم لأنهم لم يقبلوا الكفارة التي دفعها المسيح عنهم. والسؤال هنا هو: هل رفض كفارة المسيح تُعد خطية أم لا؟ هل رفض المسيح وعمله الفدائي هو خطية أم لا؟ أعتقد أننا جميعا نتفق أنه خطية. فإن كان رفض المسيح وكفارته هو خطية فهل مات المسيح عنها أم لا؟ لأننا بحسب الاحتمال الأول اتفقنا بشكل مبدئي أن المسيح مات عن كل خطايا كل البشر. فإما أن المسيح مات عن خطية رفض البعض له ولهذا فهم يتعذبون في الجحيم بلا سبب، أو أن المسيح لم يمت عن هذه الخطية ولم يقدم كفارة عنها. وهنا تصبح كفارة المسيح ليست عن كل خطايا كل البشر.
الاحتمال الأصح والأدق هو أن المسيح مات عن كل خطايا بعض البشر. أي عن كل خطايا شعبه المعينين للخلاص. وهناك من الشواهد الكتابية كما ذُكر اعلاه وغيره كثيرا ما يؤكد هذا الحق الكتابي.
د. ق. شريف جندي