ما هو مفهوم الحرب المقدسة؟ وهل يشجع الكتاب المقدس على الحرب المقدسة؟ كيف نفهم نصوصا في الكتاب المقدس تتحدث عن ابادة شعوب بأكملها؟
تثنية 7: 1 – 5
1مَتَى أَتَى بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا، وَطَرَدَ شُعُوبًا كَثِيرَةً مِنْ أَمَامِكَ: الْحِثِّيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، سَبْعَ شُعُوبٍ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، 2وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ، وَضَرَبْتَهُمْ، فَإِنَّكَ تُحَرِّمُهُمْ. لاَ تَقْطَعْ لَهُمْ عَهْدًا، وَلاَ تُشْفِقْ عَلَيْهِمْ، 3وَلاَ تُصَاهِرْهُمْ. بْنَتَكَ لاَ تُعْطِ لابْنِهِ، وَبِنتْهُ لاَ تَأْخُذْ لابْنِكَ. 4لأَنَّهُ يَرُدُّ ابْنَكَ مِنْ وَرَائِي فَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى، فَيَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ وَيُهْلِكُكُمْ سَرِيعًا. 5وَلكِنْ هكَذَا تَفْعَلُونَ بِهِمْ: تَهْدِمُونَ مَذَابِحَهُمْ، وَتُكَسِّرُونَ أَنْصَابَهُمْ، وَتُقَطِّعُونَ سَوَارِيَهُمْ، وَتُحْرِقُونَ تَمَاثِيلَهُمْ بِالنَّارِ.
يشوع 10: 40 – 42
40فَضَرَبَ يَشُوعُ كُلَّ أَرْضِ الْجَبَلِ وَالْجَنُوبِ وَالسَّهْلِ وَالسُّفُوحِ وَكُلَّ مُلُوكِهَا. لَمْ يُبْقِ شَارِدًا، بَلْ حَرَّمَ كُلَّ نَسَمَةٍ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ. 41فَضَرَبَهُمْ يَشُوعُ مِنْ قَادَشَ بَرْنِيعَ إِلَى غَزَّةَ وَجَمِيعَ أَرْضِ جُوشِنَ إِلَى جِبْعُونَ. 42وَأَخَذَ يَشُوعُ جَمِيعَ أُولئِكَ الْمُلُوكِ وَأَرْضِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ حَارَبَ عَنْ إِسْرَائِيلَ. 43ثُمَّ رَجَعَ يَشُوعُ وَجَمِيعُ إِسْرَائِيلَ مَعَهُ إِلَى الْمَحَلَّةِ إِلَى الْجِلْجَالِ.
لكي نفهم هذه النصوص ومقاصد الله من الحروب المقدسة التي قامت بها إسرائيل في العهد القديم تتميما لمشيئة الله الصالحة لابد وأن نضع في عين الاعتبار أمرين هامين: أولا تدرج الإعلان الإلهي، ثانيا موقع هذه الحروب في تاريخ الفداء.
بالنسبة للأمر الأول، يعلمنا الكتاب المقدس أن إعلان الله لنا عن نفسه وأعماله قد تم بشكل تدريجي إلى أن وصل لذروته في شخص وعمل المسيح (عبرانيين 1: 1- 2). ولذلك فلابد وأن نفهم الأحداث والأشخاص والمؤسسات التي كانت موجودة في العهد القديم في ضوء خليفتها التاريخية ودورها في تدرج الإعلان إلى أن وصل للمسيح.
أما عن الأمر الثاني وهو موقع هذه الحروب في تاريخ الفداء، فيجب أن نفهم أحداث العهد القديم في ضوء موقعها الزمني من تاريخ الفداء حيث يشمل هذا التاريخ على اعداد البشرية لأكبر حدث تم في تاريخها وهو تجسد الله في شخص المسيح لكي يتمم خطة فداءه لشعبه. وبالتالي ينبغي أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: كيف ساهمت هذه الحروب في دفع وتقدم خطة فداء الله للأمام؟ وكيف وجهت نظر الشعب في القديم لما سيفعله المسيح المخلص في ملء الزمان وفي عمله القضائي في نهاية الزمان؟
لكي نجيب على هذه الأسئلة ينبغي أن نذكر عدة نقاط تجمع ما بين الأمر الأول المتعلق بتدرج الإعلان الإلهي والأمر الثاني المتعلق بتاريخ الفداء.
1- كان امتلاك أرض كنعان هو تحقيقًا لوعد الله لإبراهيم ولنسله بالأرض (تكوين 12: 7، 18 – 21، 17: 8، يشوع 21: 43 – 45). ولأن لله كل الأرض والمسكونة والساكنين فيها (خروج 9: 29، 19: 5، تثنية 10: 14، أيوب 41: 11، مزمور 50: 12)، فهو وحده له الحق أن يعطي الأرض (وأي أرض) لأي شخص أو شعب كيفما يشاء وحيثما يشاء.
2- وعد الله شمل على دينونة الأمم الكنعانية (تكوين 15: 13 – 16، لاحظ أن تعبير “الأموريين” في العهد القديم يشير بشكل عام إلى شعوب أرض كنعان الوثنية)، مستخدمًا إسرائيل في ذلك (تثنية 9: 1 – 6)، وكانت محدودة لذلك الزمن فقط. لابد أن يجري الله دينونته العادلة المقدسة. فالدينونة هي دائمًا جزء رئيسي في الفداء. فمنذ سقوط أدم في الخطية سقطت معه كل البشرية وأصبح حكم الموت واجب على الجميع لأن أجرة الخطية هي موت (رومية 6: 23). فبسقوط أدم أصبح كل الجنس البشري ساقط في الخطية ويقف أمام الله مذنبا نتيجة احتساب خطية أدم لهم وارتكابهم الخطية الفعلية (رومية 5: 12، 15 – 19، 1 كورنثوس 15: 21 – 22). ولذلك فإن قرر الله يومًا ما أن يهلك شخصا ما أو شعبا بأكمله نتيجة الخطية فسيكون ذلك حكمًا عادلاً وبارًا ومقدسًا من إله قدوس يكره الخطية ومن يرتكبها (لاويين 20: 22 – 23، مزمور 5: 4 – 6، 6: 16 – 19، 11: 4 – 7، أمثال 15: 8 – 9، 26، 16: 5، ناحوم 1: 2، لوقا 12: 4 – 5). لذلك فغضب الله واقع على كل البشر الخطاة (يوحنا 3: 36، رومية 1: 24 – 32، 2: 5). وسيأتي اليوم الذي فيه ينسكب الغضب الإلهي العادل على كل من لم يؤمن بالخلاص الذي تممه الله في المسيح على الصليب (يوحنا 3: 16، 36).
3- بالإضافة لدينونة عدم الإيمان، كانت إبادة الكنعانيين لحماية إسرائيل من الاختلاط بهم وعبادة آلهتهم الوثنية (تثنية 7: 6، 12: 29 – 31، 20: 18). فكان لابد أن تحفظ إسرائيل نفسها مقدسة وطاهرة للرب لكي تتم إرسالية الفداء التي جعلها الله في أيديها حيث تكون إسرائيل نورا للأمم وتقدم رسالة خلاص الله لأقصى الأرض (مزمور 98: 3، إشعياء 42: 6، 49: 6).
4- فقصد الله من البداية هو أن تتبارك كل شعوب الأرض في إبراهيم ونسله المختار (تكوين 12: 3، 18: 17 – 18). هذا النسل يتمثل في إسرائيل العهد القديم وقصد الله تحقق بشكل أولي ومبدئ في أشخاص وشعوب معينة في العهد القديم مثل راعوث الموآبية في سفر راعوث وشعب نينوى في سفر يونان وغيرهم. وفي ملء الزمان جاء المسيح متممًا لما فشل فيه إسرائيل حيث يقدمه لنا العهد الجديد باعتباره هو نفسه “النسل” الجوهري والأساسي والأصيل لإبراهيم (غلاطية 3: 16) والذي تتبارك فيه كل شعوب الأرض. حيث يصبح كل من آمن بالمسيح “نسلا” لإبراهيم ووارثًا للوعود (غلاطية 3: 29). فليس جميع الذين من إسرائيل العهد القديم هم إسرائيليون حقيقيون بحسب مقاصد الله، ولا لأنهم من نسل إبراهيم حسب الجسد هم جميعا أولاد حقيقيون للرب (رومية 9: 6 – 7). “أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ، بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً” (رومية 9: 8).
5- لاحظ أن أمر الله لإسرائيل في قرينة الحروب المقدسة هو أن تهلك الأمم الساكنة في داخل أرض كنعان فقط (تثنية 20: 16 – 18)، وهو المكان الذي منه تكون إسرائيل شهادة للأمم عن نعمة وعظمة الله. لكن عندما تتعامل إسرائيل مع الشعوب التي خارج حدود أرض كنعان فلا يجب أن يهلكوهم (تثنية 20: 10 – 15).
6- امتلاك إسرائيل للأرض وإبادة شعوب كنعان لا يعني أن الله يفضّل إسرائيل ويقف ضد الكنعانيين. فراحاب الزانية قد نالت الخلاص وهي ليست من بني إسرائيل بل من سكان أرض كنعان لكنها آمنت بإله إسرائيل الحي الحقيقي (يشوع 2: 8 – 13، 6: 17، 25، عبرانيين 11: 31). وأيضًا في قرينة نفس الأحداث نرى عاخان ابن كرمي الذي كان من ضمن شعب إسرائيل لكنه تصرف بحماقة في عدم إيمان وجعل كل إسرائيل تخون خيانة في الحرام وتخطئ وكان غضب الرب عظيما على بني إسرائيل. ولذلك نال عاخان وكل بيته القضاء الإلهي العادل الذي يستحقه (يشوع 7: 1 – 26، اقرأ أيضًا تثنية 7: 7 – 11). في مراحل أخرى من تاريخ الفداء نرى دينونة الله العادلة تأتي على شعب إسرائيل مستخدما في ذلك شعوبا وثنية مثل الأشوريين في حروبهم مع المملكة الشمالية لإسرائيل والبابليين في حروبهم مع المملكة الجنوبية لإسرائيل وقد انتهت هذه الحروب بالسبي الأشوري للمملكة الشمالية والسبي البابلي للمملكة الجنونية (2 ملوك 17: 1 – 23، إرميا 19، 25). في الواقع من يقرأ بتركيز ما صنعه الله مع إسرائيل من دينونة عادلة مستخدما شعوبا أخرى في ذلك يكتشف أنها كانت أصعب بكثير وأشد قسوة مما صنعه الله بيد إسرائيل من دينونة للكنعانين أيام يشوع (2 ملوك 17: 20 – 23، إرميا 19: 6 – 13، 25: 8 – 11).
7- امتلاك أرض كنعان هو شهادة عن قوة وعظمة الله في كل الأرض. فمن خلال امتلاك الأرض تعلم كل شعوب العالم أن يد الرب قوية (يشوع 4: 24). كلمة “تعلم” في هذه الآية لا تعني بالضرورة معرفة الخلاص. لأن البعض تجاوب مع هذه الشهادة بالإيمان (مثل راحاب) من بين شعوب الأرض، والبعض الأخر تجاوب بالرفض لهذه الشهادة كما نرى في ملوك هذه الأمم التي سمعت عن إله إسرائيل وقوته ولكنها لم تخضع تحت سلطانه (يشوع 10: 1 – 7، 11: 12). فامتلاك الأرض هو بغرض أن يعرف شعوب العالم الله إما كديان أو كمخلص.
8- دينونة الله المصاحبة لامتلاك الأرض ليست تفويضا لاستخدام الجهاد ضد غير المؤمنين في كل مكان وزمان. لكنها كانت دينونة محددة لوقت وزمن معين وتتميما لأحداث محددة في تاريخ الفداء. فهذه الدينونة شكلت مع باقي أحداث تاريخ الفداء الصورة الأكبر للخلاص في المسيح. ولذلك ينبغي أن نفهم هذه الدينونة في ضوء الدور الذي لعبته لتتميم هذه الصورة الكبرى. فالحروب هنا ليست نموذجا أخلاقيا يُتّبع في كل وقت.
9- في العهد القديم كانت الدينونة الإلهية ضد إعداء بشرية من الدرجة الأولى. لكن في العهد الجديد محاربتنا ليست مع دم ولحم ولكنها مع رؤساء وسلاطين وأجناد الشر الروحية في السماويات (أفسس 6: 12) والتي تقف خلف الأشرار وتحركهم وتقودهم في الشر. ولذلك فحروبنا في العهد الجديد هي أشد قسوة لأنها تتعامل مباشرا مع أجناد الشر الروحية. حيث أن حروبنا المقدسة الآن هي مع مملكة الظلمة التي يترأسها إبليس وأعوانه من الشياطين. هذه الحروب قد سبق وأنتصر لنا فيها المسيح على الصليب (يوحنا 12: 31، 16: 33، كولوسي 2: 15). وقد أعلن لنا الرب أن النصرة النهائية لنا في المسيح مضمونة لأن نصرة المسيح على الصليب وفي القيامة تضمن نصرته النهائية على إبليس وتؤكد عليها (رومية 8: 37، 1 كورنثوس 15: 5، 24، 2 كورنثوس 2: 14). فعند نهاية الزمان ستكون دينونة الله على قوى الشر لإبليس وأتباعه من الشياطين والبشر كما نرى في سفر الرؤيا.
10- أخيرا إن امتلاك أرض كنعان هو بمثابة صورة أو ظلا لدينونة الله النهائية في اليوم الأخير. حيث تمثل أحداث وشخصيات العهد القديم مثالا مصغرا لما تممه المسيح في مجيئه الأول وما يتممه الآن في السماء عند عرش الآب وعلى الأرض بالروح القدس من خلال الكنيسة وما سيتممه في مجيئه الثاني (1 كورنثوس 10: 1 – 6). فيشوع في شخصه وعمله كان بمثابة ظلا أو مثالا لما هو أبعد منه أي المسيح نفسه (عبرانيين 3: 7 – 4: 13).
في ضوء هذه النقاط نرى أن الحروب المقدسة في العهد القديم لعبت دورا هاما في تاريخ الفداء حيث تممت مقاصد الله الصالحة في تحقيق وعوده لشعبه وإعداد البشرية لملء الزمان حيث تجسد المسيح محققا بشكل مبدئ ما سبق ووعد به الله إلى أن يكتمل هذا التحقيق بشكل كامل في المجيء الثاني للمسيح. هذه هي القرينة الكتابية التي ينبغي أن نفهم من خلالها هذه الحروب لكي نعرف دورها الرئيسي في خطة الفداء. ليعطنا الرب نعمة لكي نفهم ما قد أوصى به وتممه شعبه في العهد القديم بشكل صحيح في ضوء اكتمال إعلان الله عن نفسه في شخص وعمل المسيح.
د. ق. شريف جندي